عدنان صعيدي .. من الصوت إلى الكتابة

لا زلتُ أتذكَّر ذلك اليوم مِنْ أيَّام عام 1399هـ تمامًا، كنتُ قدْ أتممْتُ قبله اختبار الشَّهادة الابتدائيَّة في المدرسة الفيصليَّة، الَّتي تقع في محلَّة القريَّات، بعد أن انتقلتْ إليها مِنْ حارتي العتيدة، محلَّة الهنداويَّة.

لا أستطيع اليوم تعيين الوقت، لكنَّ كلّ الَّذي أذكره أنَّه كان في النَّهار، ويغلب على ظنِّي أنَّه قُبَيْل الظُّهر، اجتمعنا أنا وأُمِّي وإخوتي حول المذياع، نتحيَّن لحظة يفوه المذيع بدر كريِّم باسم مدرستي، معدِّدًا أسماء النَّاجحين في الشَّهادة الابتدائيَّة إلى المرحلة المتوسِّطة، كانتْ حالة مِنَ الصَّمت والوُجوم تلفّ المكان، ويعلو وجوهَنا هالة مِنَ التَّرقُّب، بدأ المذيع بحرف الألف فالباء فالتَّاء فالثَّاء، وحين انتهى إلى حرف الجيم، بدأ كلٌّ مِنَّا يشير إلى الآخر بإصبعه إشارةً إلى المبالغة في الصَّمت، والاستعداد لبدْء المذيع بحرف الحاء، ثمَّ ما لبث أنْ جعل يقرأ الأسماء الَّتي تبدأ بحرف الحاء، وسَرْعان ما فاه باسمي قائلًا: حسين محمَّد علوي بافقيه، فانفجر البيت صياحًا وابتهاجًا بنجاحي، وما هي حتَّى عرفتِ الحارَة بهذا الخبر السَّعيد، وعهدتْ أُمِّي إليَّ بأن أبتاع صندوقًا مِنْ قوارير البيبسي والميرندا لتوزيعها على الجيران، ومَنْ يَعْبُر الشَّارع الَّذي يقع فيه بيتنا، قبل أنْ تُوْكِلَ إليَّ أُمِّي الذِّهاب إلى السُّوق لإحضار اللَّوز النِّيّئ، وتفرغ، هي وأخواتي، ساعةً مِنْ نهار لإعداد مشروب “قهوة اللَّوز” السَّاخن، ذي الطَّعم الرَّائع النَّفَّاذ، لنُوَزِّع أكوابًا مِنْه على الجيران والأصدقاء مِنْ أبناء حارتنا الهنداويَّة.

وأذكر أنَّني حينما التقيتُ الإعلاميّ الكبير عبد الكريم الخطيب، ليلة تكريمه في “اثنينيَّة” الشَّيخ عبد المقصود خوجه، كنتُ كمنِ استردَّ شيئًا مِنْ عمره، وجعلْتُ، في تلك اللَّيلة، أصغي إلى صوته الإذاعيّ المميَّز، وبينما أخذ في سرد ذكرياته، رجعتُ القهقرى إلى السَّنوات الأخيرة مِنْ عشر التِّسعين مِنَ القرن الهجريّ الماضي، ففي ذلك الصَّباح الباكر، ونحن نستعدُّ للذِّهاب إلى المدرسة، وندفع عنْ وجوهنا ما تبقَّى مِنْ نوم، ونسمع لنصائح أُمِّي كي نشرب الحليب السَّاخن، وهي تفتح حقيبتها الصَّغيرة لتخرج منها لكلِّ واحدٍ مصروف اليوم المدرسيّ ريالين كاملين، كان يتناهى إلى أسماعنا صوت مذياعنا، صادحًا بتلك الأغنية الَّتي علقتْ بسمعي، منذ تلك المدَّة:
احرث وازرع أرض بلادك
بكره تعطي الخير لولادك
جاهد واسهر تغرس فيها
زرعك يثمر خذ واعطيها
ثمَّ يخفّ صوت الأغنية، فينتهي إلينا اسم البرنامج “الأرض الطَّيِّبة”، بعدها يصدح صوت الإعلاميّ عبد الكريم الخطيب، بأسلوبه العذب السَّهل اليسير، في حديث ماتعٍ عن الزِّراعة والفلاحة والتُّربة وما تحتاجه مِنْ سماد وخلافه، ويستمرّ هذا الأمر، معنا، صباح كلّ يوم، حتَّى لكأنَّنا لا نتصوَّر صباحًا دون هذا البرنامج، ولا تكتمل طقوس الصَّحو والاستعداد للذِّهاب إلى المدرسة، دون أن نرمي بأسماعنا إلى صوت المذيع الكبير عبد الكريم الخطيب.

وما كدْتُ أنسَى تلك الأيَّام، حتَّى وضع عدنان صعيدي بين يَدَيَّ كتابه الجديد “على موجة طويلة، برامج وشخصيَّات”، وما إنْ أخذتُ في قراءته حتَّى بِتُّ في حالَين لا أعرف صرْف أحدهما عن الآخَر؛ ما انطوى عليه الكتاب مِنْ تأريخ وتدوين لبرامج إذاعيَّة قديمة، وما تَسَرَّبَ إلى ذاكرتي ووجداني مِنْ طائفة منها، وألفيتُني أقرأ كلام عدنان صعيدي، وهو جميل مؤثِّر ماتع، وأغوص في ذاكرتي معه، لأستذكر ملامح تلك السَّنوات الَّتي كان المذياع يحتلّ موقعه في بيتنا، ولم يستطع التِّلفاز، في زمن الأبيض والأسود، ولا الملوَّن، أن يصرفنا عنه، فألفْنا أصوات المذيعين والمذيعات، وأسماء المعدِّين والمخرجين ومهندسي الصَّوت، وبات مألوفًا في ذاكرتي وذاكرة كلّ مَنِ انتمَى إلى الجيل الَّذي أنتمي إليه أسماء عبد الله راجح، وسعيد الهنديّ، وأحمد كتاميّ، وعبد الرَّزَّاق نوريّ، وعلي قلص الغامديّ، وشيرين شحاته، ونجوى مؤمنة، وماما سعاد، والشَّريف العرضاوي، فهم أقرب إلينا، لأنَّهم معنا، طوال الوقت، ما دامتْ أصواتهم وأسماؤهم تصل إلينا مِنْ خلف إبرة المذياع.

لا أعرف كيف سستستقبل الأجيال الجديدة، تلك الأجيال الَّتي لم تنْشأ على المذياع، ولم تعرفْ برامجه، كما عرفناها، كتاب عدنان صعيدي؟ لكنَّني أقول دون أن يكون في كلامي ضرْبٌ مِنْ غلوّ: إنَّ عدنان صعيدي أثار بكتابه هذا ما اختبأ في مطاوي الذَّاكرة، وأعادها جذعةً، قويَّةً فتيَّةً، واستجلب إلينا قدرًا مِنَ الحنين والفرح والحزن؛ الحنين إلى أيَّام مضتْ، والفرح بذاكرة حيَّة، والحُزْن على عمرٍ مضى، لكنَّه، في الحنين والفرح والحزن، قدْ أحسن إلينا، كما أحسن إلى تاريخ الإعلام في بلادنا، استرددْنا بكتابه جانبًا حبيبًا مِنْ حياة كلّ واحدٍ أدرك ذلك العصر، ومنح ثقافتنا وإعلامنا كتابًا فيه مِنْ تاريخ الإذاعة السُّعُوديَّة ما لا يعلمه إلَّا مَنْ عاصرها وعمل فيها، وهذا ما اتَّسم به عدنان صعيدي، في رحلته الطويلة خلف المذياع.

ما الَّذي قدَّمه عدنان صعيدي في كتابه هذا؟
سيظفر فيه مؤرِّخ الإعلام، والإذاعة خاصَّةً، بتأريخٍ دَوَّنه مؤرِّخ معاصر، وقف على الحدث بنفسه، بلْ وضرب بسهم وافر في صناعته، وذلك هو المؤلِّف عدنان صعيدي، وسيُلْفِي فيه طلاب الإعلام ذاكرةً لحقبة قديمة مِنْ عمر إذاعة جدَّة، استنقذها المؤلِّف مِنَ الضَّياع، وأثبتها في كتابه، فظهرنا فيها على وثائق طريفة لإنتاج البرامج وإخراجها وتنفيذها، وعرفنا فيها أسماء المعدِّين والمذيعين والمخرجين والفنِّيِّين، بلْ وساعة البثّ، وهي ذخيرة نفيسة، سينزلها التَّاريخ منزلتها، بعد حين، وجَلَا فيه عدنان الحُجُب عنْ أسماء اتَّصلتْ أسبابها، منذ عقود طويلة، بالإذاعة، فترجم لها ترجمة وافية، وقدَّم لمؤلِّفي التَّراجم العامَّة سِيَرًا أمينة لجيل قديم ومخضرَم مِنَ الإذاعيِّين والإعلاميِّين، سيقرأ كلّ أولئك، ويقرأ القارئ المثقَّف، كلامًا مبسوطًا مِنَ التَّاريخ الحَيّ الَّذي لا أثر لمعظمه في الكتب ولا الصُّحُف عنْ برامج وأسماء، ربَّما عرفها بعضنا، ومؤكَّد أنَّ جمهرةً مِنَّا لم يعرفوها، فكان كتاب عدنان صعيدي تقييدًا لتلك الحياة، وتنبيهًا إلى تلك المآثر.

سنقرأ ذلك، لا شكَّ، وسنظهر عليه، كلَّما دعتْنا الحاجة إلى توثيق خبر، أوْ تجلية وهْم، أوْ معرفة عَلَم، ولا يعتريني شكٌّ في أنَّ كتاب عدنان هذا، وكتابه الَّذي سبقه في الصُّدُور “على الموجة القصيرة”، سيغدوان مرجعين مهمَّيْن يَفْزَع إليهما مؤرِّخو الإذاعة السُّعُوديَّة وطلبة الإعلام، وسيرى فيه أساتذةٌ في أقسام الإعلام في جامعاتنا ما يرفع كليهما ليصبحا كتابَيْن مقرَّرَيْن على الطُّلَّاب، يسترشدانهما فيما انبهم عليهم مِنْ تاريخ الإذاعة السُّعُوديَّة، ورجالها ونسائها، ويكتشفان فيهما كيف استكان ما كان صوتًا أثيريًّا على الورق، ليصبح جزءًا مِنْ تراثنا الثَّقافيّ، ولعلَّهم سيُعجبون بأولئك الرِّجال والنِّساء، حِين عَدُّوا الإذاعة ضربًا مِنْ ضُرُوب الاستنارة وتنمية المجتمع، مهما كلَّفهم ذلك الصِّعاب والمَشَاقَّ.

كلُّ ذلك وارد، وكلُّ ذلك حقيق بأنْ يحتلَّه الكتابان، وبخاصَّةٍ كتاب “على موجة طويلة”، فهما كتابان يدلَّان على مقدار ما عرفه عدنان وعاشه، وكان هو، بحقّ، المؤرِّخ المؤتمن عليه، والمنوط به نقل ذلك التَّاريخ إلى الأجيال، فكان ذانك الكتابان.

وعلى أنَّني أجد في هذا الضَّرب مِنَ الكتب لَذَّةً ومَتاعًا، وعلى أنَّني أحبّ مِنَ الكتب ما يميل إلى التَّأريخ والتَّدوين، نقيِّد بها حِقَبًا مِنْ تاريخنا، ومعالم مِنْ حياتنا، فإنَّ ما شدَّني إلى هذا الكتاب أمرٌ آخر، لا صلة له بالتَّاريخ ولا التَّوثيق ولا التَّدوين، وإنِ استجمعها وانطوى عليها وأنهاها إلى قارئه واضحةً بيِّنةً لا يكتنفها غموض.

كنتُ كلَّما مضيتُ في الكتاب أُمْسك بأثر ظاهر مِنْ عدنان صعيدي، أكاد أسمع صوته مِنْ خلف الكلمات المكتوبة، وكنتُ أستطيع تتبُّع أثره كلَّما تقدَّمتُ في فصوله، واستبان لي أنَّني أقرأ في فصوله وفقراته ومقاطعه حياة عدنان، منذ كان طفلًا تبعثه الأمنيات على أن يكون مذيعًا، إلى أنِ التفَّ حول أسماء المذيعين والمعدِّين والمخرجين الَّذين أمضَى حياته كلَّها في كنفهم، ثمَّ إذا بهم يغادرونه، واحدًا تلو الواحد، فيمضي وحيدًا إلَّا مِنْ ذكرياته، وكلَّما تقدَّمَ به العمر، لا يجد معنًى يصيبه لحياته إلَّا في ذلك الماضي الَّذي كان، وعساه أدرك أنَّ “المذياع” الَّذي ألف حشرجات صوته، لن يلبث أن يُظِلَّه يومٌ يحال فيه ما بينهما، حين يتقاعد عن عمله، فآثر أن يُحِيل “الصَّوت” إلى “كتابة”، فأخرج لنا كتابيه “على الموجة القصيرة”، و”على موجة طويلة”.

مكث عدنان دهرًا طويلًا يُسْمِع النَّاسَ صوته، يروي لهم الخبر حين يصبح، ويناجيهم حين يمسي، وآن اليوم، بعد أنْ فُطِمَ عن المذياع، أنْ يُقْرِئهم ما يكتبه، ولعلَّه استوفَى كلّ ما أتاحه له الصَّوت، وآمن، بأخرةٍ، أنْ جاء أوان الكتابة، وحين كتب وجد نفسه، كرَّةً أخرى، ولا شغل له إلَّا الكتابة عن الصَّوت، بلْ إنَّ للصَّوت سطوةً عليه، تلك السَّطوة الَّتي نلفيها في عنوانَيْ كتابيه المستمدَّيْن مِنِ اصطلاح المشتغلين بالإذاعة.

كتب عدنان صعيدي عن الإذاعة وعنْ رُوَّاد عبروا بها، ولكنَّه كتب عنْ نَفْسه، وأنا يحلو لي أنْ أرى في كتابه “على موجة طويلة” سِيَرًا لأولئك الرُّوَّاد الأعلام، وأرى فيه سِيرةً لعدنان، وسِيرة لنا نحن الَّذين أدركنا طَرَفًا مِنْ ذلك التَّاريخ، وأولئك الرُّوَّاد، وتلك البرامج. هو لمْ يقلْ ذلك، وربَّما لمْ يمرَّ ذلك بخاطره، لكنَّ حياته ظهرتْ في مرايا أساتذته وزملائه الَّذين عمل معهم، وأحبَّهم، ورغب في الكتابة عنهم، ويستطيع القارئ أن يتتبَّع حياة عدنان في كتابه هذا، طفلًا فشابًّا فرجُلًا فشيخًا، يقرأها في حديثه عنْ برامج الأطفال، ويقرأها في سِيَر سعيد الهنديّ وبدر كريِّم وعبد الله راجح وأحمد كتاميّ وعبد الرَّزَّاق نوريّ، ويقرأها في هذا البرنامج أوْ ذلك، وكأنَّ عدنان خشي على ذلك التَّاريخ العفاء والاندثار، خشيته على حياته هو، ونفسِه هو، فاطَّرَح “الصَّوت”، وانبرى للكتابة.

والَّذي أومن به أنَّ عدنان، في مرحلتيه؛ مرحلة الصَّوت، ومرحلة الكتابة، تحقَّقَ له النُّجْح، نجح حين لمْ يعرفِ النَّاسُ منه إلَّا صوته القادم إليهم مِنْ وراء الأثير، ترفده لغة سمْحة متينة، لا ضعف فيها ولا التواء، ونجح حين امتشق القلم واتَّخذ الكتابة ذريعته إلى النَّاس، فقدَّم كتابةً، بمقدورنا أنْ نطلق عليها، مصطلح “الأدب الإعلاميّ”، فكان في كتابته أديبًا يعرف قيمة الكلمة، ويزنها بميزان يُحِسّ أثر أصواتها في الذَّوق والوجدان، وأحسب أنَّ القدر كان عادلًا مع عدنان، فما إنْ خسرتْه الإذاعة، حين تقاعد منها، حتَّى كسبتْه الكتابة، فكان فيها السَّابق المُجَلِّي.

يا عدنان!
أنا عددْتُ كتابك هذا كتابًا في السِّيرة، واعلمْ أيُّها الصَّديق أنَّك لم تكتبْ فيه سيرتك وحدك، ولكنَّك كتبتَ فيه سِيرتي وسِيرة كلّ مَنْ أدرك ذلك العهد الَّذي أدركْتَه أنتَ وأدركتُه أنا، فألفى في كتابك الحنين والفرح والحزن؛الحنين إلى أيَّام مضتْ، والفرح بذاكرة حيَّة، والحُزْن على عمرٍ مضى!

*ورقة ألقيت في حفل توقيع كتاب “على موجة طويلة”، جدَّة، في 25 المحرَّم 1437هـ.

البلاد 1437/2/24هـ