في صحبة أعلام الزركلي

 

عرفت كتب العلامة خير الدين الزركلي في عهد مبكر من حياتي، وأذكر أنني ابتعت كتابيه «شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز»، و»الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز»، في أثناء دراستي الثانوية، وكان يلذ لي في تلك المدة قراءة فصول من هذين الكتابين، ثم ازددت قربًا منه حين اتصلت أسبابي بشعره، فاقتنيت، بعدها بقليل، ديوان شعره، وراقني ما جبلت عليه قصائده، من متانة لغة، وإحكام أسلوب، وبتّ مشغوفًا بآثار هذا الأديب العالم، أتتبعها، وأقتني منها ما تصل إليه يدي.

وحين اختلفت إلى الجامعة كان من أعظم مقتنياتي كتابه الباذخ «الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين»، وشغفت بهذا الكتاب المحيط شغفًا عظيمًا، حتى بات سميري، في نهاري وليلي، أقرؤه فأجد فيه لذة ومتاعًا، وأديم النظر في تراجمه ساعات لا أحصي لها عدًّا، حتى لكأني وقفت على مخبَّآته، وفسح لي معرفة واسعة بمن ترجم لهم من الأعلام، في تاريخنا القديم، وحتى زمن المؤلف.

والحق أن كل الأسباب قد اجتمعت لتجعل من أعلام الزركلي أثرًا من الآثار التاريخية العظيمة في حركة التأليف العربي في العصر الحديث، فالرجل قد أنفق في تأليفه عمره كله، وظل يعيد النظر في أثنائه، ويهذبه ويشذبه، إلى أن توفَّاه الله، وألفى فيه الأدباء والمؤلفون وعامة القراء ما يريدونه من جمهرة ضمت في أجزائها كل من دُوِّن له اسم في تاريخ العرب والمستعربين، ورضي عنه الأدباء والقراء، واتخذوه سميرهم، وأشبعوه قراءة وتفتيشًا، ومع أنهم استدركوا عليه ما فاته، وصححوا ما وقع فيه من سهو، فلم يزدهم ذلك إلا قربًا منه، وإعجابًا به لم تبله الأيام.

نقرأ في قاموس «الأعلام» تراجم لأناس نعرفهم، وتمرّ أعيننا على تراجم لأناس لا نعرفهم، ونفزع، من حين إلى حين، إليه، نستخبره، ونفتش فيه عن اسم اتفق أن مررنا به في هذه الحادثة أو تلك، ونهش إذا ظفرنا به، ونطمئن كل الاطمئنان أن سنفوز بترجمة وافية، يتبعها العلامة الزركلي برأي سنثق به كل الثقة، فالرجل أديب شاعر مؤرخ عالم محقق، عُرِفَ بشدَّة توقِّيه، وعدالة رأيه، وهذا يكفي.

ولخير الدين الزركلي، كما لغيره من مؤلفي السير والتراجم في تراثنا القديم، مفردات ومصطلحات تسبق أو تتبع اسم المترجَم له، فالعالِم، في كتابه، غير الفاضِل، والشاعر غير الناظم، والأديب غير المتأدب.

وقارئ أعلامه، إن أدام النظر فيه، يعرف أن هذا الكلم وما يشبهه، إنما ينطوي على رأي الزركلي في هذا العَلَم أو ذلك، وأغلب الظن أن القارئ سيتبع صاحب الأعلام فيما ذهب إليه، ويستقيد إلى ما أخذ به، ومقامه في ثقافة العرب المحدثين جليل وعظيم.

ومن عادتي أنني لا أتردد في الأخذ برأيه في تراجمه، وهو عندي الثقة.

وحينما يصف حسن بن علي الآلاتي الحكواتي، بأنه «متأدب مصري»، وأنا لا أعرف هذا الآلاتي الحكواتي، لا أملك إلا أن أنزل على حكمه! وكذلك الشأن في حسن قويدر وحسن بن علي حرز الدين، حين وصفهما بـ»الفاضلين»، فإذا وقفت على ترجمة لبعض من ذاعت شهرته، فلا يخالجني شكّ في أنني سأوافقه كل الموافقة، فالأخطل الصغير، بشارة الخوري «أشهر شعراء لبنان في العصر الحديث»، وعلى ذلك رأيه في إلياس طعمة وإيليا أبي ماضي، وأينما مضينا في أعلامه فثمَّ رأي وحكم، مدار الأمر فيهما معرفة واسعة وثقافة متينة، وإسناد إلى أهل العلم، وهو دقيق في عبارته، لا يسوق كلماته كيفما اتفق، فعمرو بن كلثوم شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، والشنفرى شاعر جاهلي من فحول الطبقة الثانية، وعمرو بن مالك بن زيد شاعر جاهلي قديم، والقطامي شاعر غزل فحل، ولا نكاد نقرأ صفحة من صفحات قاموسه إلا وله فيها رأي في العلماء والأدباء والساسة وكبار القوم.

مكة 1437/2/2هـ