ويلٌ لتاريخ الحجاز من أهله

 

ليست اللهجة ولا اللكنة ولا طبائع النفوس هي الفيصل في دراسة وسبْر أغوار المجتمعات والشعوب في تصنيف الأمكنة والمناطق، وإن كانت العادات والتقاليد وثقافات الناس في أحوالهم وحياتهم مادّة كثير من الذين صنّفوا وبحثوا في علم الاجتماع ونحو ذلك إلا أنهم استطاعوا في اجتهاداتهم ربط اللهجات واللغات بل وحتى الآكال والألعاب والزّي بقيمة اجتماعية حاولوا استخلاصها من كل ذلك فنجحوا أو حاولوا ليقتربوا من بعض ما له محطّ اهتمام إنساني.

وطننا بنجْده وجنوبه وشرقه وحجازه وشماله وكل بقعة منه ذو أصلٍ تراثي ممتدّ عبر العصور يستحق جرأة باحثين وعلم مستكشفين وجدية عاملين يضعون نصب أعينهم استخلاصات التجارب ونفض الغبار عن التاريخ المكتوب أو المحفوظ في هدف رشيق قيّم هو الإضافة ذات المعنى الأخلاقي أو العلمي أو العملي الاجتماعي ليكون الفخر حينها مستحق الاستمرار والظهور في كل محفل وبكل اتجاه ترجمة وتبيينا حين تنفيذ مهرجانات وفعاليات لها أهداف الرقي لحاضر أجمل ومستقبل أفضل بنتائج ماضٍ أصيل.

لكن المتابع لسنة مضت وسنة بدأت لما ينبض هنا في جدة ويطفو على السطح هناك في الطائف ويظهر أحيانا في المدينة المنورة ويُقدّم تارة في مكة المكرمة يقف مشوّش التفكير حين يقارن صيحاتٍ واحتفالات وزعميّة نشاطات تراثية بما يعرفه ويعلمه من خلال المصادر المدوّنة والحكايات الحقيقية التي لا يزال أهلها على قيد الحياة فيما يخص الحجاز من أثرٍ يستحق الاستعادة والإشادة والإظهار غير ما هو متداول من قشور تلك الحياة الماضية.

هل اختصرت جدة التاريخية في مقعدٍ وعمدة وأكلات وشالٍ غباني وانحسرت الطائف في رمان وبعض من التين الشوكي وبدت المدينة المنورة نعناعا وبيع تَمْر واختُزلت مكة المكرمة في زمزميات ماء وطبقات صوْت في أناشيد؟في تاريخ الحجاز تمازج ثقافات وتعايش أجناس وعرقيات وتآلف مذاهب فقه وتآخي اتجاهات فكر وتواصٍ بالحق والصبر وأمنٌ وأمان ووطنية ولاء منقطعة النظير لا نرى لها إبرازا في مرافئ الحشد لحواشي تراث الحجاز بعيدا عن متونه.

لا ألوم غير الحجازيين إن شاع فيهم بعض كلامٍ لا هو عربي ولا عجمي بعبارات (سوقيّة) ظنّا منهم بأنّ هذه لهجة الحجاز أو بعض مدنه فلهم العذر لأن ما يسوّق له هو (مكة حقّنا) و(إشبك يا بويا) و(روّقْنا) ونحو ذلك من إسفافِ إظهارٍ استحلّ مكان كنوزٍ تراثية ثقافية عظيمة مهملة.

عجبٌ أن تكون البليلة هي الفخر وكرسي الحكواتي هو التاريخ والكوفية هي الرمز والمزمار هو القيمة الاجتماعية والحلاوة اللدّو والمشبّك والتطلي هي أساس الاهتمام لتبيين ما عليه ذلك الزمن من ثقافة ودراية وتهذيب وحضارة.
لا يمكن أن يختلف اثنان اطلعا على أحوال الحجاز سماعاً أو رؤية أو قراءة بأن في مكة وجدة والمدينة والطائف وتوابعها إبان ذلك الزمن الماضي مؤسسات للمجتمع المدني بالمعنى الحقيقي الذي يعرفه أهل الاعتبار والإنصاف.

كانت هناك فلسفة تاريخية للتجارة وأصولها والتعاطي معها في جدة وكانت هناك استراتيجية عالية للتعليم والتهذيب والتثقيف في مكة وكانت هناك تجارب وفعاليات ومؤسسات للمعنى الحقيقي للتكافل الاجتماعي بالمدينة وكانت هناك نماذج فذة لانصهار الثقافات وتلاقح الهجرات بالعجيب من نتائج التمازج في الطائف وكانت هناك مهارة صيد واستغلال بحري رائد بينبع وغير ذلك كثير.

ثم إنّ الذي يحزن في نتائج أعمال القائمين على إظهار جدة التاريخية أو أخواتها من مدن وقرى الحجاز ليس أنهم (خطفوا الكبابة من فم القدر)، بل لأنه (ما صدّقت فطيمه بدي الكليمه) فأخذوا من مظاهر بعضٍ ممن قطنوا الحجاز ملبساً ولهجة وثقافة وممارسة وجعلوا منها فخرا تاريخيا لا يسمن ولا يغني من جوع في حين أنه حُقّٓ للحجاز الفخر بأمور وأدوات وصفحات تاريخ عظيم في متناول كل باحث في أي مجال كان لو التفت للقيمة المعنوية والعلمية والاجتماعية.

من الفظيع أن يتصوّر سائح قدم لمهرجان (جدة وأيامنا الحلوة) بأن ذلك الزمن كان كل رجاله يحلو لهم الجلوس في قارعة الطريق أو في مقعد العمدة وكل نسائه همهم إعداد أكلٍ وتطريز ملابس وكل عائلاته يلهون (بالكيرم) ونحو ذلك من الألعاب وكل ملابسه كوفية وشال غباني وتحزيم خصر ومشعاب أو عصا.

أليس عِلم الحجازيين من التراث، أليس هندسة الحجازيين وكيف نمت وكيف دلّت على مراعاة مناخ من التراث، أليس قُرّاء الحجاز من التراث، أليست مهنة التجارة واستغلال الموانئ البحرية من التراث ، أليست الأوقاف والأربطة والمدارس والمصانع والسقيا ورصف الطرق من التراث، أليس استقبال الحجاز للهجرات وتوطين المهاجرين من التراث ، أليست الكتب والمصنفات في كل المجالات بلا استثناء من التراث ؟ هل أصبح الحجاز دورق ماء بنكهة الورد يصبّ منه شاب لبس لباس ( عجرمة ) في ( طاسة ) ليُخبر (المعازيم) أنّ الحجاز ثلاثي الأبعاد هو ( لهجةٌ وكوفية وبليلة ) ؟ في اعتقادي بأن مثل هذه الممارسات في المهرجانات إن لم تجد من يضعها في إطار منظومة متكاملة وحزمة معطيات تاريخية ذات قصْد عالٍ ستكون بداية لتدليس التاريخ.

صحيفة مكة 1436/9/10هـ