تجليات المكان..في أزقة وحارات مكة
تذكرت تلك الطفولة التي كانت هادئة هانئة..بمساحة طيب العيش وأصالة الناس.. وطهارة الأرض،وبساطة الزمن..لازالت رائحة تراب أرض زقاق بيتنا القديم في مكة الطاهرة ، عالقة في الذاكرة والفؤاد،حيث ولدت ونشأت في طفولتي المبكرة،رائحة تذكرني برائحة أخرى لها نكهة مختلفة وعبق له روحانيته وتجلياته،هي رائحة الحصى الصغير الذي كان يغطي المساحات الأكبر حول الكعبة والمطاف في المسجد الحرام ، والتي تسمى (الحصوة) وجمعها كما هو شائع بين أهل مكة "حصاوي"،وبين الرائحتين تنطبع في ذهني صور ومواقف تتجلى في أبهى صورها،فرائحة التراب في باب الدريبة الزقاق الذي كان يقع فيه بيتنا قرب الحرم الشريف،حيث كان يحلو لنا اللهو واللعب والتسلية ، وفي برحة قريبة تسمى حوش الرمادي،منطقة شبيهة تماما "بالأحواش" التي اشتهرت بها أحياء المدينة المنورة المحيطة بالمسجد النبوي ، وهيئتها كما وصفها المؤرخون،عدد من البيوت،تجتمع في حوش واحد له باب واحد يمكن الدخول والخروج منه للحارة،كان اسم الحي الذي كنا نسكنه،حي الشامية أحد أشهر أحياء مكة المشهورة التي أزيلت بالكامل في التوسعة الأخيرة للحرم،وزقاق باب الدريبة الذي يصل ما بين باب الحرم من الناحية الجنوبية وسوق السويقة،وقد أزيلت المنطقة في أول مشروع لتوسعة المسجد الحرام عام 1954م.
سوق السويقة كانت من أشهر الأسواق التجارية في مكة،وهي سوق بانورامية بدكاكينها وأنواع التجارة فيها وروادها وما لطبيعتها من نسق اجتماعي هرموني فيها،حيث تمتزج العادات بالوقائع وإيقاعات مسيرة الحياة وديناميكية الحياة فيها،وأحتفظ في ذاكرتي بما انطبع فيها لي من مواقف وشخصيات،وما سمعته عنها ، والذي سأتوقف عنده لاحقا،حين أتحدث عن السويقة ووجوهها.أما رائحة "حصاوي" الحرم، فقد كانت عبارة عن حجارة صغيرة مختلفة الألوان والأحجام ،أغلبها في حجم ما يجمعه الحجاج في مزدلفة لرمي شواخص الشيطان في (منى) ضمن مناسك الحج. وللحصى الذي كانت تفرش فوقه سجاجيد الصلاة في الحرم،رائحة تذكرني أيضا بروحانية المكان وتجلياته الروحانية،واستذكارنا لدروسنا ما بين صلاتي العصر والمغرب ،وكنا نتسلى ونسرق جزءا من الوقت،من حين لآخر في اللعب بالحصى ألعاب مثل "السُقّيطة"و"اصطفت"،كما كان يستخدمها المصلون أيضا في حساب عدد ركعات صلوات قيامهم وتهجدهم وتسبيحهم.ولاشك أن لتلك الرائحة عبقها الطاهر الذي يختلف عن رائحة تراب اللهو والجري والعراك،وبالمناسبة كان "كش التراب" في وجه الآخر يعتبر نوعا من العداء والتحدي،ونذيرا لخلاف قد يتسبب في خصومة ومعارك بين حارة وأخرى.كنت بطبيعتي،في طفولتي مسالما أتجنب المعارك وأبتعد عن الشر وأغني له،كما تقول العامة،وبطبيعتي كنت بشهادة أهلي هادئا كثير الانطواء، قليل الاحتكاك بالآخرين ، كانت أمي تقول أن شقاوتي كانت بريئة،وكنت ميالا للتفكير والتأمل وكثرة الأسئلة.
الحارة المكية القديمة المندثرة،كانت تشكل مجتمعا صغيرا بكل تكويناته، الكل يشعربمسؤوليته تجاه أبناء الحارة،والذي لا يعلمه أهله يعلمه أهل حارته،ويخافون عليه كما لو أنه أحد أبناء البيت لا الحارة.وكنت من ذلك الجيل،في ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه الترابط قويا بين أفراد المجتمع،وإذا كانت قد هزتنا أحداث ومواقف الرجال والنساء وأهل الحارة، في المسلسل الشامي (باب الحارة)،فقد كانت حارات مدن الحجاز مكة وجدة والمدينة،تتماهى مع تلك المثالية والأريحية والشهامة،والتكافل والتكامل بين جميع أفراد الحي والجماعة.كان الحرم المكي المصلى والمدرسة، يجمع أهل العبادة وطلاب العلم،كان بعض الطلاب يهرب منهم من مدرسته ليختبئ في الحرم، وتأخذه أحيانا دروس العلم فيها،ولا يكون كاذبا حين يتحجج بغيابه عن المدرسة،لأن درسا في المسجد الحرام لأحد المشائخ من العلماء،قد أخذه الوقت في سماع درسه،وكانت دروس العلماء في هيئة حلقات في أروقة المسجد الحرام ، وأغلبها كان في الفقه والسيرة النبوية وأصول الدين واللغة والبلاغة.وكان لجدي الشيخ عبد الحميد محمد علي قدس الإمام الشافعي بالمسجد الحرام،العالم والشاعر، حلقة درس قرب باب السلام،وكان أثر ذلك واضحا في نفسي وفي تكويني الثقافي،وكان لرائحة كتب جدي في رفوف الديوان ، وأوراقه في الصناديق التي كانت تملأ الصناديق والسحاحيرفي مخزن البيت، ما جذبني و حببني في القراءة والكتابة والبحث عن المعرفة.
المصدر : صحيفة مفاكرة