جغرافي من مكة

 

كنت كلما التقيت الدكتور معراج مرزا ألمح فيه خصيصة طبعت عليها شخصيته، حتى لكأنها جبلّة فيه، فهو يؤثر الصمت على الكلام، وإذا ما تحدث إلى أحد فإنه يسوق كلامه بعبارات يصطفيها، يكسوها الذوق ويغلفها الحياء، وتراه إذا ما جلست إليه جم التواضع، لا يُدِلّ بعلم، وإذا ما أثنيت عليه، سرعان ما يخفف من كلامك بالاستغفار، فتعجب لهذا العالم الذي فسح الله، تبارك وتعالى، له العلم والمعرفة، فآثر العزلة والتواري، وانقطع إلى البحث والتنقيب والتفتيش، وصرف شطرا صالحا من حياته، لغاية ندب نفسه لها، أن يبحث في جغرافية مكة المكرمة وثقافتها، فصمت حين تكلم الآخرون، وكان حديثه كتبا وافرة؛ باحثا ومنقبا ومترجما، وأخلص في كل ما توفر عليه، وكان مثالا للعالم المحقق المدقق.

عرفت اسم الدكتور معراج مرزا حين وقع بصري على ترجمة باذخة لكتاب «صفحات من تاريخ مكة المكرمة في أواخر القرن التاسع عشر»، للمستشرق الهولندي سنوك هرخرونيه، فاستقر اسمه واسم شريكه في الترجمة الدكتور محمود السرياني في عقلي، مترجمين أعادا إلى ذاكرتي جيل النقلة الكبار في ثقافتنا العربية الحديثة، من أمثال عادل زعيتر، وزكي نجيب محمود، وأستاذ الجغرافيا والمترجم والناقد والأديب محمد عوض محمد، وأدركت من فوري قيمة تلك الترجمة الرصينة في بهاء لغتها العربية ومتانتها، ثم واظبت على قراءة كل ما ينهض به هذا العالم الجليل، وأكبرت فيه وفي زميله الدكتور عبدالله شاوش تأليف ذلك السفر العلمي العظيم «الأطلس المصور لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة»، وكان ذلك الكتاب النادر مجلى للإبداع، وصورة صادقة للتتبّع المخلص الأمين لأوائل الصور التي التقطها المصورون لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، ثم إذا بهذا العالم الجليل ينفرد بإخراج مَعْلمته الجغرافية الجليلة «خرائط مكة المكرمة»، منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، وكان هذا الكتاب، بحق، واسطة العقد في مؤلفات هذا الجغرافي المكي الجليل.

وعلى ما استقر في شخصية الدكتور معراج مرزا من انقطاع للعلم والمعرفة، وعلى ما اتسمت به ترجماته من بيان مشرق، ولغة عربية محكمة، فإن هذا العالم المكي، وإن اعتزل الناس للدرس والبحث والتأليف، كان نموذجا فذا للعالم ذي الضمير والمثقف ذي الرسالة، وعسى أن يعرف من تأمل فيما بحث وألف، حِسّا أخلاقيّا لباحث أراد، وقد بُدِّل من حال مكة المكرمة ما بُدِّل، أن يخرج من صمته ويصدع بالحق المر، ويقول للتاريخ الذي يقيد علينا صمتنا كما يقيد علينا كلامنا: ها هنا، وها هنا، وحسب، يحسن الخروج على الصمت ويجب الكلام.

صحيفة مكة 1436/8/3هـ