عبدالهادي التازي

 

عرفت العلامة الدكتور عبدالهادي التازي بتحقيقه الجليل لرحلة ابن بطوطة، ولا زلت أذكر تلك اللحظة التي رأيت فيها اتفاقا ذلك الكتاب في مكتبة الرشد، بطريق الحجاز، بمدينة الرياض، وهالني أن الكتاب يقع في خمسة مجلدات، ووجدتني من فوري أنقد البائع قيمته لأظفر به، لأنعم بذلك التحقيق الدقيق، وبالمقدمات العلمية التي مهد بها الدكتور التازي لتلك الرحلة المشهورة في الثقافة العربية، واجتهاد ذلك العالم الجليل في تحقيق الأمكنة والأسماء ورسم الخرائط، حتى عد ذلك التحقيق معلمة من معالم الأدب الجغرافي العربي.

وظللت سنوات، وأنا حفي بتلك النشرة العزيزة، أحوطها بألوان من الشوق والتوق، وقد ألفيتها مثالا للعمل الجاد المتقن، ومنذ ذلك العهد، عرفت قيمة ذلك المحقق العالم المتضلع من المعرفة في التاريخ والجغرافية واللغة والأدب والدبلوماسية.

واتفق لي، في أثناء رئاستي لمجلة الحج والعمرة، أن التقيت العلامة التازي في ندوة كبرى، عقدت في القاهرة، عن «طرق الحج»، فاستعدت من فوري تحقيقه الباذخ لرحلة ابن بطوطة، وكنت سعيدا كل السعادة وأنا أصغي إلى مداخلاته وتعليقاته العميقة، وهو يتنقل بنا بين التاريخ والجغرافية واللغة والأدب، ويطرفنا بألوان من المعرفة مدهشة عن طرق الحج، وهو إذ يفعل ذلك يسوق كلامه سوقا هينا، وكأنه يتحدث إلى أصدقائه، دون أن يُدِلّ بعلم، أو ينصب نفسه معلما على الآخرين، ويحلو له أن يمتع أسماعنا بأحاديث فيها الطرفة والنكتة، مما يحفظه ويرويه من النوادر والأخبار.

اتصلت أسبابي بالدكتور عبدالهادي التازي وتوثقت صلتي به، ونعمت بمعرفته، وكان - رحمه الله - قد اعتاد أن يبعث إلي كل شهر رسالة يضمنها ألوانا من عطفه ورعايته لي، ويشيد بمجلة الحج والعمرة، ولا أزال أحتفظ بتلك الرسائل، وأعدها من خير مدخراتي التي أعتز بها.

والعلامة الدكتور عبدالهادي التازي مؤرخ وباحث غزير التأليف، شملت مؤلفاته أوجه الثقافة العربية الإسلامية؛ في التاريخ والجغرافية والأدب والعلوم الإسلامية والدبلوماسية، وتمتاز كتبه بالتدقيق والتحقيق، ويدهشك فيه إحاطته الواسعة بما ندب نفسه للكتابة فيه، ويعجب القارئ حين يقرأ في أثناء تآليفه الكتاب المطبوع النادر، والمخطوطة الفريدة، والوثيقة التاريخية العزيزة، ويرفد كل ذلك بلغة بيانية جميلة، يوجهها إلى قارئه، وكأنه يحدثه، وينضح أسلوبه بمائية الأدب، ويتحلى بالطرفة والنادرة، وهو نهج في الكتابة فريد، صار لازمة من لوازمه التي جبل عليها.

قرأت من كتب العلامة عبدالهادي التازي غير كتاب، ولا أزال أبذل الجهد وأمني النفس بالظفر بسائر كتبه، فكتبه تعلم وتهذب وترقى بالروح والوجدان، وهي إلى ذلك قريبة حبيبة، وألممت فيما ظهرت عليه منها، بطرف من حياته وجهاده العلمي، وذوقه وروحه ووجدانه، ومن ذلك كتابه الجامع الطريف «رحلة الرحلات: مكة المكرمة في مئة رحلة مغربية ورحلة»، وفي هذا الكتاب الذي فسح لألوان الرحلة إلى الحج، في طول التاريخ الإسلامي حتى زمن نشره، استيعاب عجيب لدقائق كتب الرحلة المغربية المطبوع منها والمخطوط والمفقود، وفيه يظهر روح الدكتور عبدالهادي التازي وأطراف من حياته شابا فكهلا فشيخا، وضربه في الأرض، باحثا ومحاضرا وحاجا، حتى صح أن نعتد هذا الكتاب معلمة في ثقافة الحج، بمختلف وجوهه في الفقه والعقائد والتصوف والتاريخ والجغرافية والأدب واللغة، ويدهشنا في ذلك الكتاب أن العلامة التازي يعرف ما الذي يحسن تقديمه إلى قارئه، حتى إذا ما أتم القارئ مطالعته، عرف أي قدر من الثقافة سيق إليه، وأي جهد بذله المؤلف، وعرف قدر الكتاب، وقدر صاحبه وموقعه في الثقافة العربية الحديثة، وأدرك حاجتنا إلى هذا النمط الصعب من المعرفة، ذلك الذي انفسح للعلامة الدكتور عبدالهادي التازي، فكان رحمه الله نموذجا فذا يعيد إلى أذهاننا صورة العلم العربي الإسلامي في أبهى نماذجه.

صحيفة مكة 1436/7/6هـ