الجنائز وشهود الله في الأرض

 

بين فترة وأخرى يرحل من بيننا أحبة، تخطفهم يد المنون حال حلول نهاية آجالهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. هي سنة الحياة وهي كما يقال لحظة الحقيقة الوحيدة التي نعرفها.. حقيقة الموت.. رحم الله السابقين منا والمستأخرين..

في الأسبوعين الفارطين خطفت يد المنون السيد عباس مالكي والذي أطلق عليه الأستاذ عمر المضواحي كبير مراسلي هذه الصحيفة الغراء لقب (مداح النبي) – صلى الله على النبي وعلى آله وصحبه-، ومن قبله خطفت من بيننا الصديق الحبيب المطوف صلاح صدقة، والذي يحق لي أن أطلق عليه لقب (حبيب المطوفين)..


وقد شيعت مكة بقضها وقضيضها السيد عباس مالكي، رحمه الله، في موكب مهيب تلألأ بالذكر والدعاء وقراءة القرآن.. رأى فيه البعض مظاهر الفرح بلقاء الله سبحانه وتعالى والأحبة محمد وصحبه صلوات الله عليهم ورضوانه أكثر من مظاهر الحزن على فراق أحبة الدنيا.. فقد كان السيد كمن يزف إلى من يحب.. رحمه الله..

ذكرتني مشاهد جنازة السيد عباس رحمه الله – التي لم أتمكن من حضورها لوجودي خارج المملكة وقتها - بمشاهد جنائز وأيام عزاء بعض الخيرين من أهالي مكة، رحمهم الله، وأول ما شهدته من هذا النوع هو ليلة عزاء العم عبدالله بصنوي، رحمه الله، عمدة حي الشامية الشهير، إذ احتشد المئات في صفوف لأداء واجب العزاء والتي ظلت ممتدة طوال الفترة المخصصة للعزاء ما بين المغرب والعشاء، وفي بعضها إلى ما بعد صلاة العشاء، كما حدث في عزاء والدي رحمه الله.. وكذلك ليالي عزاء السيد أمين عطاس، والدكتور محمد عبده يماني.. وغيرهم رحمهم الله جميعا وجمعنا بهم في مستقر رحمته..

وحشود المشيعين والمعزين هي فأل خير للصالحين وبشارة لذويهم، فقد جاء في الأثر أن مرت جنازة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثني عليها بخير حتى تتابعت الألسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت، قال ومرت به جنازة فأثني عليها بشر حتى تتابعت الألسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت، فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله قلت في الجنازة الأولى حيث أثني عليها خيرا وجبت، وقلت في الثانية كذلك فقال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم شرا فوجبت له النار، إنكم شهود الله في الأرض، مرتين أو ثلاثا.

ومن لطائف المكيين أنهم يسأل سائلهم المشيعين عند دخول بوابة مقبرتهم الشهيرة جنة المعلاة (إيش تشهدوا عليه؟) فيرد غالب المشيعين من أهل الجنة أو من أهل الخير إن شاء الله، تفاؤلا بوجوب الجنة لفقيدهم..

رحم الله السيد عباس مالكي رحمة الأبرار فقد كان سمحا لطيفا مستبشرا فلا تكاد تراه إلا والابتسامة تعلو محياه ومداعبا لخلانه ومحبيه، وبارك في عقبه وعقب أخيه السيد محمد، رحمه الله، ونفع بهم وأعانهم على حمل مشعل العلم الذي حملته أسرتهم منذ مئات السنين.

وأما أخي المطوف صلاح صدقة، فهو نموذج للرجل المكي الشهم النبيل، وقد شهدت ليالي العزاء فيه حضورا يعكس حجم مكانته لدى محبيه، وكان قبل وفاته بشهر تقريبا، قد حصل على أكبر عدد من أصوات ناخبي مؤسسة مطوفي حجاج الدول العربية، من بين مرشحي انتخابات أعضاء مجلس إدارة المؤسسة، وهو ما كنت توقعته قبل ظهور النتائج، لمعرفتي بمكانته في نفوس المطوفين، لما كان يظهره لهم من محبة، ويقدمه لهم من دعم أثناء عملهم معه أو تحت إشرافه أثناء أعمال الحج ـ رحمه الله ـ وبارك في عقبه، ووفقهم للسير على نهج أبيهم، وحفظهم من كل مكروه.

صحيفة مكة 1436/7/1هـ