رحيل عالم لغة وراوية أدب... فؤاد سندي

 

 

* كان من عادة المكيين في الماضي أن يقضوا إجازاتهم وخصوصًا الصيفية منها في رحاب طيبة الطيبة كما كان وصول الركب المكي يشكل حدثًا اجتماعيًا وتراثيًا هامًا، وتحتضن «المناخة» و»حلّتها»، و»العينيّة» المزدانة حوانيتها بتلك الأقواس المصنوعة من الحجر، رجالًا تضيء وجوههم بالبشر وتنضح قلوبهم بالحب، والمكي الذي وصفه الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتون: Burton 1821-1890، بأنه أواب بطبيعته فإنك لتجده أكثر الناس خضوعًا وانكسارًا في مثوى سيد الخلق وخاتم الرسل -صلى الله عليه وسلم-.

ومن غير تهويل ومبالغة فإنني أتحدث عن مشاهد مضى عليها ما يقرب من ربع قرن من الزمن ولعلي أجد متكأ لي في شهادة الأخوين الكريمين الأستاذ الأديب محمد عمر العامودي والأستاذ الإعلامي عبدالله رواس ففي تلك الحقبة تعرفت على زمرة من شباب مكة ورجالاتها كالأستاذ الأديب عبدالوهاب خياط وابنه الصحافي المعروف فوزي رحمهما الله، وعرفت كذلك الأخوين ياسين ويوسف سندي، وظلت معرفتي بهما متواصلة حتى قدومي إلى مكة دارسًا في مطلع التسعينيات الهجرية، وفي «مركاز» رفيق الدرب الأستاذ والمربي محمد نور مقصود عرفت لاحقًا أخاهما الأكبر الأستاذ والمربي واللغوي والأديب فؤاد سندي الذي قضى أخيرًا واحتضنه ثرى الحجون والمعلاة، فوجدتني من دون مبالغة أمام عالم في اللغة وراوية للشعر فكنت الجأ إليه بين الحين والآخر لأسأله عن قضية لغوية وعن بيت من الشعر لا أعرف قائله فكان يأتيني الرد منه سريعًا وبنفس راضية فكنت وآخرون معي نعده وريثًا لعلماء عرفوا بتبحرهم في علوم اللغة والأدب من أمثال فضيلة العلامة سيبويه عصره السيد محمد أمين كتبي 1327-1404هـ، وشيخنا الورع عبدالله دردوم وأساتذتنا في قسم اللغة العربية بكلية الشريعة من أمثال: علي بكر الكنوي، وجميل ظفر، والدكتور راشد الراجح، وطرق رحمه الله باب جامعة الأزهر فارتوى من ينابيع العلم هناك مازجًا في دراسته العليا هناك بين اللغة والأدب والنقد فأفاد منه طلابه بداية في العزيزية الثانوية كما جاء في المقالة الضافية التي كتبها أحد تلامذته الصديق المستشار محمد سالم سرور الصبان ناعتًا إياه بـ»أستاذ الأجيال» عكاظ، الجمعة 21 جمادى الآخرة 1436هـ كما حاضر في ردهات جامعة أم القرى بمكة المكرمة لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمن، وكان مع هذه الثقافة الشرعية واللغوية والأدبية متواضعًا، وأزعم أنني لم أره -رحمه الله- في كل اللقاءات التي جمعتني به إلا مبتسمًا، وعندما اختارت المنية ابنه وفلذة كبده رضي بقضاء الله وقدره واحتسب ذلك عند الله.

ولعله ختم حياته العلمية الثرة بتدوين سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجها في خمسة أجزاء ودعاها «المتنقى من سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في ضوء كتاب الله»، وما أحوجنا اليوم إلى من يذكرنا عن علم ودراية وفقه بسلوكيات المصطفى صلى الله عليه وسلم ورفقه ورحمته وتيسيره على الناس في زمن كشر فيه التشدد والتطرف عن أنيابه وابتليت الأمة ببعض من ينتسبون إليها فشوهوا الوجه الحقيقي للدين الخاتم بوسطيته واعتداله وتسامحه.

صحيفة المدينة 1436/6/25هـ