لمسفلة همَّشها المؤرخون رغم دورها الثقافي
بحثت في صفحات تاريخ الحارات القديمة بمكة المكرمة عن معلومة تفيدني عن حارة المسفلة ، التي نشأت بها ، لكني بكل أسف لم أجد ما يشبع شغفي ، رغم دورها البارز في تعدد الثقافات وتردد الأدباء عليها ، وكل ما عُرف عن المسفلة أنها " حارة (أي محلة) من حارات مكة التاريخية وسميت كذلك بحكم نزول مستواها الجغرافي عن المسجد الحرام.
فكل ما نزل عن المسجد الحرام جنوباً يسمونه أهل مكة بالمسفلة، وما ارتفع عنه شمال شرق يسمونه بالمعلاة "
و" قال الأزرقي في تاريخ مكة: «من الصفا إلى أجيادين فيما أسفل منه، فذلك كله من المسفلة، وما حازت دار الأرقم بن أبي الأرقم والزقاق الذي على الصفا يصعد منه إلى جبل أبي قبيس مصعدا في الوادي، ومصعدا إلى قيقعان، وما حازت سيل قيقعان إلى سويقة مصعدا فذلك المعلاة».
" وحدود المسفلة من الوسط أول زقاق البخارية الجنوبي الشرقي مقابل الحميدية وأول بيت المنصوري من الشرق، ومن الشمال الغربي سوق الصغير، ومن الجنوب يحدها جبل الشراشف، عرضا إلى جبل أبوطبنجة حيث بابور الكعكي. ومن أحياء ومناطق المسفلة التاريخية: دحلة الرشد، والولاية، أبو طبنجة، الكنكارية، الكدوة, قوز النكاسة، والكعكية. وتشتهر المسفله بتعدد الأعراق والجنسيات منذ القدم " .
ورغم الدور الذي لعبه هذا الحي في الثقافة العربية والإسلامية ، ما جعله مقصدا للأدباء السعوديين في بداية تأسيس المملكة العربية السعودية ، إلا أننا لم نجد من يوثق معلوماته كاملة ، وكل ما ذكر عن المسفلة أنه حي بأسفل مكة المكرمة ، دون الإشارة إلى من سكنه أو قصده من رجال فكر ومال وأعمال .
فالمسفلة الحي الذي تبدأ حدوده الفعلية من مسيال الهرساني ، وقد نسب هذا المسيال إلى الشيخ / محمد هرساني شيخ المطوفين ـ يرحمه الله ـ ، وهو واحد من أبرز رجالات مكة المكرمة المعروفين ، وهو والد معالي الدكتور حامد هرساني ـ يرحمه الله ـ الذي تولى مشيخة المطوفين خلال الفترة من1369هـ - 1386هـ بعد وفاة والده الشيخ محمد هرساني رحمه الله ، وأثناء تولي معاليه رحمه الله منصب وزير الصحة تولى شقيقه عبدالرحمن هرساني منصب شيخ المطوفين خلال الفترة من عام 1381هـ -1386هـ .
وتعتبر المسفلة من أكبر الأحياء السكنية بمكة المكرمة ، وكان مطوفو هذا الحي يخدمون حجاج العرب بكافة جنسياتهم ، فتجد المصري والشامي والمغربي والعراقي ، إضافة إلى حجاج جنوب آسيا من الهند وباكستان وبنغلاديش ، ومطوفو الترك ومطوفو إفريقيا الغير عربية ، وساهم تعدد الثقافات واللغات في تنوع سكان الحي .
كما ساهمت البساتين المتواجدة بأسفل الحي إلى شهرته ، وفي المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبدالمقصود خوجة ، الباب الثاني الفصل الأول " البحث التاريخي المياه بمكة في أدوارها التاريخية " يشير إلى أن ( العامة تقول بكرة ماجد ) ، هو ماء عين جارية ، وهذا الماء تارة يكثر ، وتارة يقل ، وكل الهيئات التي ألفت في الزمن السابق لم تلتفت إلى معرفة المجرى الأصلي لهذا الماء ، ونميل إلى أن السبب الرئيسي لهذا هو كون العين المذكورة خاصة ، وأقول خاصة بناء على أن الوضع الحاضر يدل على ذلك ، أما التاريخ فالذي يفهم منه غير هذا ، وقد انتقلت الآن إلى علي باشا ، وفي عام 1345 هـ اهتم بالأمر بعض مستأجري البستان لقلة مائها فبحثوا عن منبعها الأصلي ، وكان ذلك بإشراف هيئة ( عين زبيدة ) ، فاستمروا في ذلك إلى أن وصلوا إلى ( بيت الخزندار ) في القشاشية ، ولم يتمكنوا من التقدم نظرا لكون المجرى واقع تحت دارهم ، و أن التقدم إلى الأمام يحتاج إلى فتح فتحات في نفس الدار ، ولذلك وقف البحث عند هذا الحد " ،
وان كان الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبدالمقصود خوجة ـ يرحمه الله ـ ، قد أشار إلى " بركة ماجن " وأوضح أن ( العامة تقول بكرة ماجد ) ، مستندا في ذلك إلى قول الواسعي صاحب تاريخ اليمن الذي أشار إلى أن "ماجل البركة الكبيرة"وذكر ابن دريدي في كتاب جمهرة اللغة ما لفظه: "الماجل ماء يستنقع في أصل جبل، أو واد من الترلا من المطر - وبمكة في أصل أبي قبيس ماجل يستنقع فيه المياه. قال الأصمعي: ربما فاض حتى تغسل فيه الغسالات الثياب. ويقول ياقوت: "الماجل هو في الأصل البركة الكبيرة"، وعموم مؤرخي الحجاز ذكروها بالنون (ماجن)، ولعلَّ لفظة (ماجل) باللام أصح، لأن كتب اللغة أجمعت على أن تكون باللام، والغريب أن صاحب بغية الراغبين ذكر ماجل المسفلة (ماجزه) بالزاي بعدها هاء، ولعلَّ هذا تحريف. ومما هو جدير بالذكر أن الأزرقي ذكر في غير ما موضع لفظ "ماجل" باللام وهو المعتمد فيما أرى
وماجل المسفلة هذا، أو بركة "ماجد" كما تسميها العامة لم أقف على خبر الذي أنشأها، ولا عن الذي عمرها، وكل ما رأيته في هذا الصدد في تواريخ الحجاز هو ما نقله صاحب إفادة الأنام عن ابن فهد ما لفظه "وفي سنة 848 هـ عمر السيد ناظر الإسكندرية البركة.
وفي سنة 848 هـ عمر السيد ناظر الإسكندرية البركة بأسفل مكة المعروفة ببرك الماجن، وإخراج ما كان فيها من التراب، ورفع جدرانها الأربع قناطر لحجز مياه هذه السيول عن هذه المدينة وانصرافها من الجهة الشرقية نحو المسفلة إلى خزان كبير في الجهة الجنوبية يسمونه بركة الماجن، وهناك تستعمل للأعمال الزراعية، ولا تزال لهذه السيول أضرار جسيمة بمكة ومبانيها". فمن هذا يفهم أن الذي عمل ماجل المسفلة عمر بن الخطاب. وهذا لم يذكره أحد من المؤرخين فيما وصل إليه علمي، ولم يذكر لنا البنتوني مستندة في ذلك، ونأسف على أن أكثر ما جاء في رحلته عن الحجاز والحجازيين يتعارض مع الحقيقة، فلهذا نشك في صحة هذه الرواية "
وما يهمنا هنا ونحن نتحدث عن حي المسفلة الدور الذي لعبه هذا الحي في الأدب والثقافة السعودية ففي بحث أعده الأستاذ / محمد علي يماني تحت عنوان " أشهر المقاهي في مكة المكرمة قديما " ونشر بموقع قبلة الدنيا ، تناول بإيجاز الحديث عن " قهوة عبدالحي في المسفلة بالقرب من بركة " ماجن " ، مشيرا الى أن " من أشهر من يرتادها الأساتذة عبدالله عريف ـ محمد حسين زيدان ـ عبدالرزاق بليلة ـ ويلتقي الناس فيها من بعد العشاء " .
لكن ما سمعته من أستاذي عبدالكريم نيازي ـ يرحمه الله ـ أن قهوة عبدالحي شكلت البداية الحقيقية للأدب السعودي ، وكانت مقصدا لهم يتبادلون فيها المطبوعات القليلة والنادرة القادمة من مصر ، وكانت مجلة الهلال أبرزها ، وكانت النسخة الواحدة من المجلة تتداول بين رواد المقهى من الأدباء ، الذين كان الكثيرون منهم لا يستطيعون شراء المجلة بسعرها الرسمي ، وتكون المجلة كسلعة متداولة بين أيديهم ، فمن يشتريها بريال مثلا يبيعها بعد أسبوع بريال إلا ربع ثم تباع لثالث بنصف ريال إلى أن يصل سعرها لقرشين .
ومن أبرز رواد هذا المقهى كما ذكر أستاذي النيازي ـ يرحمه الله ـ ، الأساتذة / عبدالعزيز الرفاعي ، وصالح جمال ، وأحمد جمال ، وغيرهم كثر ـ يرحمهم الله ـ .
وما نأمله من مؤرخي مكة المكرمة والمهتمين بتراثها أن يتناولوا حي المسفلة بالتحليل التاريخي وإبراز دوره الأدبي والاجتماعي والاقتصادي بمكة المكرمة خاصة والمملكة العربية السعودية عامة .
مقال خاص بموقع قبلة الدنيا مكة المكرمة | بقلم : أ.أحمد صالح حلبي | نشر بتاريخ 1436/3/11هـ .