وجوه السويقةو تجليات المكان

 

حارات مدن الحجاز مكة وجدة والمدينة ، تتماهى مع تلك المثالية والأريحية والشهامة، والتكافل والتكامل بين جميع أفراد الحي والجماعة.كان الحرم المكي المصلى والمدرسة ، يجمع أهل العبادة وطلاب العلم ، كان بعض الطلاب يهرب منهم من مدرسته ليختبئ في الحرم ، وتأخذه أحيانا دروس العلم فيها ، ولا يكون كاذبا حين يتحجج بغيابه عن المدرسة ، لأن درسا في المسجد الحرام لأحد المشائخ من العلماء ، قد أخذه الوقت في سماع درسه ، وكانت دروس العلماء في هيئة حلقات في أروقة المسجد الحرام،وأغلبها كان في الفقه والسيرة النبوية وأصول الدين واللغة والبلاغة .

وكان لجدي الشيخ عبد الحميد محمد علي قدس الإمام الشافعي بالمسجد الحرام،العالم والشاعر، حلقة درس قرب باب السلام ، وكان أثر ذلك واضحا في نفسي وفي تكويني الثقافي،وكان لرائحة كتب جدي في رفوف الديوان ، وأوراقه في الصناديق التي كانت تملأ الصناديق والسحاحير في مخزن البيت ، ما جذبني و حببني في القراءة والكتابة والبحث عن المعرفة.

مفردات فسيفسائية

لتلك المفردات التي يقرأها المتأمل في ثقافة البيئة والعمارة في المجتمع المكي ، نجد أمامنا ما يشبه قراءة  لوحة فسيفسائية ، يقف المتأمل عندها مدققا في تفاصيلها ، مستمتعا بقراءتها تاريخيا واجتماعيا ، ولعلي أذكر الآن ما له علاقة بهذه القراءة الدقيقة ، حين شاركت في برنامج المبدعين في العالم الذي أقامته جامعة أيوا في مدينة أيوا بالولايات المتحدة(عام1995م) ، تم ترجمة قصص المشاركين ، وقد وقع الاختيار على ترجمة عدد من قصصي القصيرة ، وكان من بينها قصة ( أخبار خالتي رقية ) من مجموعتي القصصية الأولى (نقطة الضعف) وكانت أحداث القصة تدور في حي شعبي من أحياء جدة القديمة..وفيها مفردات(الروشان) ، (الدهليز) ، (الطاقة) و (اللغوصة) أي النميمة ونقل الأخبار الكاذبة ، حينها وجدت متعة في تفسير دلالات تلك المفردات ومعانيها خلال لقاءاتنا مع الأدباء المبدعين المشاركين وطلاب الجامعة ، في ورش العمل الإبداعية وقراءات النصوص المفتوحة في الجامعة والمكتبات العامة،وما أقامته الجامعة من نشاطات ضمن فعاليات البرنامج الذي استمر فصلا دراسيا كاملا.

مفردة (الروشان) استهوت الفنانين والروائيين ، وتوقف عندها المستشرقون والمؤرخون خلال تدوين مشاهداتهم في رحلاتهم للديار المقدسة ومدن الحجاز ، والروشان واجهة عمرانية تم تصميمها ليتمكن النساء من النظر لما يدور في الحارة من أحداث وما في الخارج من مشاهد ونشاطات وتفاعلات اجتماعية وبيئية.

دون أن يراها الآخرون،وهو بالفعل ما جسدته في قصتي والعلاقة بين الخالة رقية والروشان نقل الأخبار أو صياغتها بحرفية لتصنع بها أخبار تشغل بها مجالس النساء والتي تعرف عند أهل مكة بـ (اللغاوص). 

       
وجوه السويقة  الملامح والرموز 

ولسوق السويقة وجوه وطقوس ،وهي السوق التي كانت تمتد ما بين المسعى وقاعة الشفا ، كانت  طبيعة هذه السوق البانورامية فريدة ولها نكهة وذكريات،، هي سوق للأقمشة والملابس والعطور،تجارها كان أغلبهم الذين شكلوا بيوت مكة التجارية ، ومن أشهرهم،البوقرية، الألفي ، الدهلوي ، الطيب،تجار السوق كانوا من الطيبة والسماحة ، حيث كانوا يغضون أبصارهم عند شراء النساء من دكاكينهم،ويعطفون على الصغار ولا يبخلون عليهم بالقروش لشراء الحلوى،وكانوا لا يفارقون دكاكينه ، ويأتيهم طعام الغذاء في حافظات للطعام (مطبقية) وينامون نوم القيلولة في دكاكينهم .

ما كان يميز أحوال ذلك الزمان وطيبة الناس فيه ، أن التاجر لا يغلق دكانه حين يغادره لصلاتي الظهر والعصر ، بل كان يكتفي بوضع قطعة قماش تغطي واجهته ، أو يضع على الباب أو فوق البضاعة كرسيه الخشبي أو سلمه الذي يستخدمه في الوصل إلى بضائعه .

وفي يوم الجمعة ، كنا نشاهد في السوق طقوس مختلفة،كان صوت القرآن  يتجلى في السوق بآيات سورة الكهف ، وابتهالات دينية وأدعية يرددها ، بعض الشحاذين الفقراء والدراويش ، كانوا على فطرتهم يعيشون البساطة .. والقناعة ، ليس في حياتهم ومعاملاتهم ذلك التعقيد الذي هو سمة هذا العصر ، المودة والرحمة والتعاون صفة الناس الطيبين في الحارة والسوق تجارا وزبائن ، ومما يذكره الآباء من حكايات و قصص فيها من الكرم والقناعة والطيبة ما يعد من المثاليات المفقودة في زماننا .

حين يستفتح التاجر بأول بيع ، إن جاءه زبون آخر يحوله لجاره حتى يستفتح وإن ترك أحدهم أمانة لديه سواء نقود أو بضاعة ، وغاب عنه ، لا يردها له  حين يكون قد  تصرف فيها أو احتاجها فيرد إليه رأس ماله وما ربح من ورائه بأمانة وقناعة نفتقدها في حياتنا المعاصرة.

فرحم الله زمانا بأماكنه ووجوهه.

مقال خاص بموقع قبلة الدنيا | بقلم أ.محمد علي قدس | نشر بتاريخ 1436/3/1هـ .