ضحك كالبكا... الشعر الحلمنتيشي في مباهجه وأحزانه

لا أعرف اليوم كيف اهتديت إلى قراءة الصحف، ولكنني أعرف سر تعلقي بها، وبصفحاتها التي انطوت على صور وإعلانات ورسوم ساخرة.

كان ذلك في زمن موغل في القدم، كانت محلة الهنداوية، بمدينة جدة حيث نشأت، هي كل العالم الذي أعرفه، وإذا ما اتفق لي أن غشيت محلة الشرفية كنت كمن انفصل عن جذوره وأصوله، فيحس بالدهشة والفضول، حين تقع عيناي على بيوت أنيقة، لكل بيت سور، تتخلله أشجار، ويسبق باب البيت رصيف نظيف وكنت أقف مشدوهاً، وأنا أديم النظر إلى تلك البيوت الجميلة، التي لم نكن لنعرفها في حارتنا الهنداوية، بل لم نكن ألفنا منظر الشارع المسفلت إلا حيناً من الزمن، ثم علته الأتربة والطين، فعادت الشوارع والأزقة إلى عهدها القديم، وعدنا إلى ألعابنا التي كان التراب مادتها، فحرمنا منها الإسفلت مدة من الزمان، وها نحن هؤلاء نستعيد براءة الشارع وطفولته، وإن امّحت كثير من معالمه لأسباب، عرفت بعد ذلك، أنها «الطفرة» الاقتصادية التي غيرت معالم البلاد، ومن بينها معالم حارتي الهنداوية.

وإن تسأل فتيان الحارة وشبانها وأهليها عن أهم مظاهر التغيير، فسيجمعون على اختفاء صهاريج «السقا» التي تجرها الحمير، ولا بد من مرورها أمام بيتنا، ولا بد أن تشنف آذاننا بأصوات الصنوج التي يحدثها السير الوئيد لتلك الحمر الهادئة الوادعة، ثم الغياب المفاجئ للفوانيس التي تعلقها البلدية قبيل المغرب، لتنير الشوارع والأزقة بأضوائها الدافئة، قبل أن تحل مكانها الأضواء الكهربائية التي مكثت حيناً ليس طويلاً، فعبث السراق أو الفضوليون بأحشائها، وانتزعوا أسلاكها ليظلنا المساء، فإذا الشوارع والأزقة ظلام دامس لا يحول دون أن تصطدم بعابر أو حجر ملقى، أو أن تفزع في تلك الحلكة، لصوت قط لا تعرف كيف داست عليه قدمك، وبتنا نأسف لزمن الفوانيس، ونلعن أضواء الكهرباء التي ما إن فرحنا بها حتى بدت لنا عدواً يترصد حارتنا وهدوءها.

في تلك الأثناء، أو بعدها بقليل، عرفت، أو لأقل عرف بيتنا المجاور لشارع طارق بن زياد، أول صحيفة في حياتي، وربما جاز لي أن أعد كيف اهتديت إلى صحيفة عكاظ حدثاً فريداً، فلم تكن الصحافة من مفردات الحارات القديمة في جدة، وغاية ما نزهو به أن نتحلق حول جهاز التلفاز، وقد عرف طريقه إلى بيتنا ساعة دخوله إلى البلاد، ثم حين تسامع الناس بأجهزة التلفاز الملونة، أسقط في أيدينا، نحن الذين عرفناه في زمن مبكر، ووقفنا عاجزين تغشانا الكآبة ويظللنا الحزن، لأنه ليس باستطاعتنا أن نبتاع جهاز تلفاز ملون، وأنى لأسرة مات عائلها أن تحظى بهذا الوافد الغريب؟ وأذكر أننا احتلنا لأنفسنا، فوضعنا على شاشة تلفازنا ذي اللونين الأبيض والأسود، غلافا ملونا لحلوى قمر الدين، فاستحالت شاشة برتقالية اللون، قبل أن نسخط على حالنا، حين شاهدنا الألوان الزاهية للتلفاز الملون فعدنا إلى بيتنا حزانى مكسورين!

ولا أذكر أنني رأيت أحداً في حارتنا يتأبط صحيفة، فكانت الصحافة على هذا النحو حادثة ينبغي أن أؤرخ لها، وأن أستحث ذاكرتي لكي أبلغ لحظة اتصالي بها، ولك أن تعرف أن قراءة صحيفة تعني الشيء الكثير، لأن فيها دليلاً على أن قارئها إنسان «مثقف»، على أن هذه الكلمة لم تكن معروفة في معجم كلماتنا، وإن أحسسنا أن صاحبها «متعلم»، و«متنور»، وأنه باتت تفصل بينه وبين أبناء الحارة حدود وسدود، فهو يقرأ الصحف وهم لا يقرؤون، وهو يعرف أسماء الكتاب وهم لا يعرفون، وهو يملي عينيه بالصور والرسوم الساخرة والإعلانات، وهم سادرون فيما نشؤوا عليه من قديم الحارة ونظامها.

صورتي في الصحافة
أما أنا فقد زاد شغفي بالصحافة حين بعثت أختي الكبرى صورتي إلى صحيفة عكاظ، من بين إخوتي، لأراها بعد ذلك منشورة، فأدركت من معاني الصحافة فوق ما أدركه، وأحسست أن ظهور صورتي كأنه عبور من عالمين: عالم الهنداوية القديم، وعالم الصحافة الحديث، وربما عددت نفسي، من يومها، ذا «خصوصية»، وبت أكثر تعلقاً بها.

سلف القول: إن حارتنا لم تعرف كلمة «مثقف»، ولكنني عرفت حينئذ كلمة «شاعر»، وعسى أن تكون هذه الكلمة هي العالم الجديد الذي أرنو إليه، ولم تكن هذه الكلمة بالمألوفة المعتادة في معجم مفرداتنا، لأن ما نعرفه منها لم يعد «الأنشودة» ونجمعها على «أناشيد»، نقرؤها في كتابنا المدرسي «الأناشيد والمحفوظات»، ولم يكن ليعنينا، في ذلك الزمان، إلا أن نردد تلك الأناشيد وأن نجد فيما نردده لذة ومتاعاً، أما كلمة «شاعر»، فكانت جديدة فتية.

لكنني عرفت كلمة «شعر»، وعرفت كلمة «شاعر»!
كان ذلك عام 1399هـ (1979)، حين ألفت عيناي تلك الأبيات الخمسة من الشعر التي اعتادها القراء منشورة كل يوم في صحيفة عكاظ، تسبقها كلمة «قناديل»، وممهورة باسم كاتبها الشاعر أحمد قنديل - رحمه الله - وأذكر أن تلك القناديل كان لها ذيوع وشيوع، وأن القراء والناس عموماً يقرؤونها ويتناقلونها، ويتسامع بها القريب والبعيد، ويتواصون بقراءتها والتلذذ بما انطوت عليه من كلام ماتع تلذه الأسماع ولا يستعصي على الفهوم، وكان مبعث المتعة في تلك القناديل، أنها تقول شعراً عربياً مثل تلك الأشعار التي نقرؤها في كتاب «الأناشيد والمحفوظات»، ومثل كلامنا الذي نتكلم به في البيت والشارع، ومثل الكلام الذي نقطع فيه أوقاتنا سخراً وهزلاً، فالشاعر أحمد قنديل يصوغ من كلامنا كلاماً ليس من كلامنا! ويتحدث كل يوم عن أمور تلابس حياة الناس في مدينة جدة، هذه المدينة التي لم نكن نعرف آنئذ، أنها في طور جديد من حياتها، وقف أحمد قنديل طائفة كبيرة من شعره هذا الذي نقرؤه عليها.

ألوان من السخرية والهزل
وأحسب اليوم أنه لم يكن ليهمنا ما يقطع به أحمد قنديل شعره من حديث عن الحفريات وأعمال الهدم التي يدعوها وندعوها «الهدد»، والمجاري - ولم تسك بعد عبارة «الصرف الصحي» – لم يكن ليهمنا كل هذا، إنما الذي يهمنا، ونتحين الصباح ونستحث الخطى إلى حيث تباع صحيفة عكاظ، هو ما انطوى عليه ذلك الشعر من ألوان السخرية والهزل، نقطع به طرفاً من يومنا، ويلذ لنا أن نقرأ تلك القناديل مراراً، ونعجب لتلك القدرة التي فسحت لشاعرنا المحبوب أن يصل كلامنا ذلك العامي بالكلام الفصيح الذي لم نكن لنعهده إلا في الكتاب المدرسي، وإلا في نشرة الأخبار والمسلسلات اللبنانية، وكان ما نقرؤه شيئاً جديداً وطريفاً، وربما كان أحمد قنديل سبباً في أن تروج صحيفة عكاظ بين الناس، وربما كان أحمد قنديل أشهر شاعر في المملكة، فالناس أدركته حين اعتلى قمة الشهرة وبعد الصيت، يقرؤون صحيفة عكاظ، فإذا بهم إزاء «قناديل»، ويديرون مؤشر المذياع فإذا بتمثيلياته الإذاعية. وسواء أقرؤوا قناديله أم أصاخوا إلى تمثيلياته، فثم الضحك والمتعة والفرح، واقترن اسم هذا الشاعر الذي تخطفه الموت عام 1399هـ (1979)، بالمرح والظرف والنكتة، وربما لم يعلم الناس - عامة الناس - أن أحمد قنديل هذا الذي طالما أفرحهم وأضحكهم، شاعر يكتب القصيدة الفصحى ويجيد فيما ينظمه، وهو هناك جاد كل الجد، يحزن، إذا تطلب القصيدة الحزن، ويعبس إذا تطلب العبوس، ويصوغ عبارات لا يعرفها إلا من اعتاد لغة الشعر وصوره وأخيلته.
وأقرب الظن أن الشعر الفصيح المعمم، أو العامي المفصح الذي ينشره أحمد قنديل، كان ترك أثره العميق في نفسي، فأحببت هذا الشاعر كما لم أحب شاعراً، وجعلت أعالج في دفاتري المدرسية بعد أن ينقضي العام، كلاماً أريد به شيئاً يشبه ما يعالجه أحمد قنديل في زاويته العكاظية اليومية، فيه سخرية وفيه هزل مما لا يختلف كثيراً عما نتطارحه في حارتنا القديمة في البيت وفي المدرسة وفي الشارع، واستقر في نفسي أنني مختلف عن أقراني في الحارة والمدرسة، فأنا أكتب شعراً - هكذا ظننت - وهم لا يكتبون، وأنتحي فيه نحو هذا الشاعر الظريف، فدبجت الصحائف من ذلك اللغو الذي ظننته شعراً، وملت إلى أحمد قنديل، ولم أمل إلى الشاعر محمد حسن فقي، هذا الأخير الذي يكتب «رباعيات» في صحيفة المدينة، ولكنه شاعر عابس حزين، يكتب شعراً عسراً فهمه والتهدي إليه، لكنني على كل حال خرجت في ذلك الزمن البعيد بشاعرين أعرفهما بعض المعرفة: أحمد قنديل ومحمد حسن فقي، ثم إذا بي بعيد تلك المدة أعرف شاعراً بعيد الصيت هو عمر أبو ريشة. مات أحمد قنديل، وتغيرت مدينة جدة التي وثق شعره معالم تغييرها، واتصلت أسبابي بالشعر الفصيح والثقافة الفصيحة، لكنني أعيد أسباب اتصالي بالثقافة والأدب والمعرفة إلى حبي لـ«قناديل» أحمد قنديل، وربما كانت سبيلي مختلفة عما أنا عليه الآن، لولا أن تأذن الله - تبارك وتعالى - أن أعرف في أعوام النشأة الأولى شعر أحمد قنديل، هذا الذي عرف بالشعر «الحلمنتيشي»، حتى صح في ظني أن هذه التسمية إنما هي تسمية حجازية، قبل أن أعرف بعد ذلك بزمن طويل أن هذه التسمية مصرية خالصة، وأن شاعرنا الحجازي إنما اقتفى فيها أثر الشاعر المصري حسين شفيق المصري مبتدع هذا الضرب من الشعر، وصاحب هذا المصطلح العجيب الغريب «الشعر الحلمنتيشي»!
ووفاء لذكرى أحمد قنديل، ولتلك النشأة الأولى التي عرفت فيها معالم الثقافة، وضعت هذه الدراسة، فهي ألصق بتاريخ عزيز عشته، وأحسب أن فيها توثيقاً لجزء من تاريخ الأدب والثقافة في هذا الجزء من بلادنا ومن وطننا العربي، به تكتمل حلقة الشعر الساخر (الحلمنتيشي) الذي ولد في مصر، وربما لا يعرف جمهرة كبيرة من القراء والمثقفين العرب، أن الحجاز كان مركزاً مهماً من مراكزه، قبل أن يذيع في غير ناحية من نواحي المملكة العربية السعودية.

المصدر : الحياة 1436/2/24هـ