مكة .. ما لم يؤرخ


أواخر الثمانينيات الميلادية  انحزت في صداقاتي لمجموعة من كبار السن ، كانوا يشكلون ما يعرف في  السياق  الثقافي لمجتمع الحجاز بـ " البشكة" .

كانوا  متقاعدين  في غالبيتهم ، ومتوسط أعمار هم ما بين الستين والخامسة والسبعين ، وبعضهم كان ينتظر الضحكة الأخيرة. متفاوتي  الملكات  والوعي والقدرات الذهنية والأمزجة ، ولكن كلهم الى حد بعيد كانت توحدهم  بهجة قلب،  ونورانية سلوك ، بينما رجاحة العقل  وكطبيعة أي مجتمع بشري تتباين بينهم .

كي لا أنسى ،  كان يجمعهم كلهم ود أحظى به بدرجات متعددة . انغمست في أوقاتهم ردحا من الزمن ، حتى  انشغلت بدراستي الجامعية والصحافة  وصداع)  الوحدة) الدائم ، بينما هم كانوا يرحلون واحدا تلو الآخر رحمهم الله ، حتى أن بعضهم لم يتركني السهو والانشغال للحاق بنعوشهم وهي تتجه صوب المعلاة.

كان أسرعهم رحيلا  العم ادريس كنو  أحد  أشهر صناع الكبدة الجملي في التاريخ المكي الحديث " ورثها عن أبيه داود كنو في سوق الليل " ، و صار إلى جانب ذلك أحد مؤذني المسجد الحرام  ، والذي حين يعن علي أحيانا الاستماع الى تكبيراته في عيد الفطر من خلال يوتيوب , أحن كثيرا للعيد وللحرم  ولجبل دفان  في العتيبية شمال مكة ،حيث تنطلق المدافع .

أشتاق لظهيرات مكتظة بسموم مكة الكاوي كنت أتحلق  فيها  حول مائدة طبخها أحد أفراد البشكة فيها  براعة الصنعة ونكهة الأيام القديمة ، والإنسان بطبعه اخترع الحنين للوراء ، إذ يرى في الماضي فسحة جمال  أكثر.

كان إدريس كنو تميزه بوضوح ،  عذوبة حديث وطلاوة لسان  ممزوجة بحنان أبوي فياض ، ربما تسمعها في صوته وهو يسمو بتكبيرات العيد .

وأنا كنت أسمو مع أولئك الكبار الكبار الذين ملؤني حكايات  ورؤى  ونظرات ما زلت أغترف منها رغم  أن كل الفترة لا تتجاوز الثلاثة أعوام  وأظنها بثلاثمئة عام .

كانت قلوبهم تباشر الحب قبيل أن يزهو ضحى مكة  تقريبا ، وحين  " يئن عمود الضحى " تبدأ البشاشة تهل  مالئة المركاز بالحبور ، وما أن تنتهي صلاة الظهر ، إلا والجمع يأخذ في الاكتمال .

مرة تكونه عشرة وجوه،  ومرة يزيد العدد،  ومرة ينقص ، كل " حسب التساهيل"  كما كانوا يرددون .

كانوا يتجنبون الوعد الجازم ، خوفا من عدم الوفاء به  لأن من آيات المنافق ( إذا أوعد أخلف ) ، وكان الآخرون متسامحين .

أتذكرهم الآن وأنا أسمع من تزعجه مجالسة الكبار  ومن لم أقل له : لولا همُ لما عرفت عن مكة ما لم يؤرخ .

مقال خاص بموقع قبلة الدنيا نشر بتاريخ 1436/2/9هـ