الحارة المكية والنسق الاجتماعي

 

 كانت الحارة تشكل مجتمعا صغيرا بكل تكويناته، وحارات مكة المشهورة كان أغلبها يحيط بالمسجد الحرام ،إحاطة السوار بالمعصم،وقد سمي بعضها بأسماء الجاليات التي استوطنت مكة منذ القدم،ومنها أحياء الشامية والسليمانية،وبقية الأحياء كانت تؤدي لأبواب الحرم من نواحيه الجغرافية المختلفة،كأحياء أجياد، القشاشية ،الشبيكة،قاعة الشفا،العمرة،الجودرية والغزة،وهناك أحياء لا تبتعد عن المسجد الحرام ولكنها تعد داخل حدود الحرم وفي نطاقه،كأحياء القرارة،الفلق، حارة الباب،المسفلة،المعابدة،الحجون،جرول والمعلاة.

إضافة إلى أحياء على الجبال المحيطة بالحرم سميت بأسمائها،كجبل هندي،جبل الكعبة،جبل قبيس وجبل خندمة.

ومجتمع الحارة في مكة له أصالته وعراقته،وطبيعته،الكل يشعر بمسؤوليته تجاه أبناء الحارة،والذي لا يعلمه أهله يعلمه أهل حارته،ويخافون عليه كما لو أنه أحد أبناء البيت لا الحارة.

وكنت من ذلك الجيل،في ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه الترابط  قويا بين أفراد المجتمع،وإذا كانت قد هزتنا أحداث ومواقف الرجال والنساء وأهل الحارة، في المسلسل الشامي (باب الحارة)،فقد كانت حارات مدن الحجاز مكة وجدة والمدينة،تتماهى مع تلك المثالية والأريحية والشهامة،والتكافل والتكامل بين جميع أفراد الحي والجماعة.

كان الحرم المكي المصلى والمدرسة، يجمع أهل العبادة وطلاب العلم،كان بعض الطلاب يهرب منهم من مدرسته ليختبئ في الحرم،وتأخذه أحيانا دروس العلم فيها،ولا يكون كاذبا حين يتحجج بغيابه عن المدرسة،لأن درسا في المسجد الحرام لأحد المشائخ من العلماء،قد أخذه الوقت في سماع درسه،وكانت دروس العلماء في هيئة حلقات في أروقة المسجد الحرام،وأغلبها كان في الفقه والسيرة النبوية وأصول الدين واللغة والبلاغة.

وكان لجدي الشيخ عبد الحميد محمد علي قدس إمام الشافعية بالمسجد الحرام،العالم والشاعر،حلقة درس قرب باب السلام، وكان أثر ذلك واضحا في نفسي وفي تكويني الثقافي،وكان لرائحة كتب جدي في رفوف الديوان،وأوراقه التي تمتلئ بها الصناديق والسحاحيرفي مخزن حوش بيتنا،كان نبت عشقي وحبي في القراءة والكتابة والبحث عن المعرفة.

هناك بابان كان لهما أثرهما في حياتي،وهما بمثابة الرمزين ولهما دلالتهما  التاريخية،فكما أن لباب دُريبة،مهد الطفولة،الحنين لماض جميل،ولمكة في تاريخها معالم لاه دلالاتها،فباب دريبة عُرف منذ العصر المملوكي،كمدخل فرعي للحرم،وفي آخرهوعند نهايته مدخل لمكتبة الحرم التي انتقلت إليه عام 1301هـ،وفيها وجدنا معظم مخطوطات مؤلفات جدي الشيخ عبدالحميد قدس، وقد بقيت المكتبة في باب الدريبة لمدة ثمانية عقود،ثم انتقلت إلى أجياد عام 1383هـ،ـوإسم دُريبة،كما ذكر المؤرخون، تصغير لكلمة دَرْب،وهو يصل ما بين الحرم والسويقة.

أما الباب الآخر فهو باب السلام،الباب الذي يعرفه طلاب العلم والأدباء ورجال الفكر،كانت فيه معظم المكتبات المشهورة،ودكاكين الأدوات القرطاسية،من أقلام وأوراق وأحبار ،إضافة إلى الكتب المختلفة،الدينية واللغوية والثقافة العامة،ومن أشهر المكتبات  التي كانت موجودة في باب السلام.مكتبات عبدالفتاح وعبدالصمد وعبدالله فدا،مكتبة الأخوان أحمد وصالح جمال،مكتبةأحمد الباز،مكتبة أحمد ملائكة ومكتبة المعارف للشيخ عمر عبدالجبار.

                                                                                    أذكر أن لبيتنا القدي تفاصيل  لا تختلف عن النسق الاجتماعي القائم في ذلك الوقت والطراز العمراني الحجازي له طابعه وتصميمه الخاص الذي عرف به في داخله وخارجه،ومن الخارج تبدو( الرواشين)المنقوشة بالزخارف الخشبية والأبواب العالية المنحوتة والمحاطة ببراويز مزخرفة.وفي الداخل الردهة الطويلة مساحة تسمى( الدِّهليزْ) بين الباب والدرج أو السلالم وأذكر أنني في طفولتي كنت أصلي مع الأهل من الرجال صلاة الجمعة في دهليز البيت حيث كانت صفوف المصلين تتعدى حدود البيت من المسجد الحرام وفي مواسم الحج لا نجد مكانا للصلاة ولا في سوق السويقة..

وتصاميم العمارة الحجازية تتفق مع العادات والتقاليد والنسيج الاجتماعي،وتأخذ في الاعتبار خصوصيات النساء واحتياجاتهن،والتصاميم الداخلية للبيت تلبي احتياجات الأسرة.

وتتشكل جمالياته بأثاثه الشرقي المتميز،الذي يظهرمهارة المرأة الحجازية وذوقها في ترتيب وتزيين ديكور المنزل،بسجاجيده الملونة ومفارشه البيضاء وستائره،في مناخ يوفر الراحة والخصوصية للجميع،.وتتكون بيوت مكة كغيرها من البيوت الحجازية من عدة طوابق،في الطابق الأول الديوان وهو مكان لاستقبال الضيوف من الرجال خاصة وبعض الدواوين لها غرف داخلية صغيرة لمبيت الضيوف،ومن ثم المَقْعَد منها ما هو صغير كجزء من الديوان ومنه ما هو كبير يتسع لعدد أكبر من الضيوف لها رواشين مطلة على الخارج،العمارة المكية والحجازية عموما لها طابعها الهندسي وطرازها التراثي الذي تتميز به في تاريخ العمارة الإسلامية.

مقال خاص بموقع قبلة الدنيا بقلم الاديب الاستاذ : محمد علي قدس | نشر بتاريخ 1436/1/25هـ