وصيف أحياء مكة التاريخية عشوائية وذهنية البلدوزر!!

 

 

أدى توصيف أحياء مكة القديمة والتاريخية شرّفها الله كأحياء عشوائية إلى استباحة البلدوزرات لها وإزالتها عن بكرة أبيها، وتم استغلال مشروع توسعة المسجد الحرام ومرافقه لإزالة غالبية تلك الأحياء القريبة من المسجد الحرام بحجة أنها عشوائية؛ وبعضها أُزيل دون حاجة ظاهرة، ودون أي اعتبار لحياة السكان من الأهالي والمجاورين، ودون مراعاة حتى لحاجة الحجاج والعمّار لوجود هذه الأحياء وما تحتويه من خدمات متنوعة ومتباينة في مستوياتها وتكاليفها..

فقد تم محو 15 حياً من أحياء مكة القديمة وهي الشامية، القرارة، الراقوبة، الفلق، النقا، جبل هندي، جبل عبادي، ريع الرسام، حارة الباب، الشبيكة، الغزة، شعب علي، شعب عامر، والقبة..

قد يقول قائل بأن غالبية سكان الأحياء المحيطة بالمسجد الحرام أصبحوا من غير أهالي مكة، وهذا إلى حد ما صحيح، ولكن الصحيح أيضاً السؤال لماذا هجر بعض المكيين الأحياء التي سكنوها منذ مئات السنين وحتى أواخر التسعينات الهجرية من القرن الماضي؟

فقد كان أهالي مكة يحيطون بالمسجد الحرام سكناً وتجارة كإحاطة السوار بالمعصم، وما زالت ذاكرة الطفولة تحمل أسماء وشخوص العديد من تجار مكة ومشاهدهم وهم في دكاكينهم يمارسون البيع بأنفسهم وأولادهم، ويجيدون الكلام بلغات الحجاج، ولا تزال حكاياتهم عن أداء صلواتهم الخمس في المسجد الحرام، وعن استضافة الحجاج وضيافتهم وإسكانهم في بيوتهم، وكيف كانوا يخلونها ويسكنون في المبيتات وما يسمونه الطيرمة وهي أعلى أدوار المنازل ليؤجروا أسفلها للحجاج - لا تزال عالقة..

إن هجْر المكيين لمساكنهم حول المسجد الحرام كان بسببين، الأول نزع الملكيات لتوسعات المسجد الحرام، وأما الثاني فهو إهمال الجهات المعنية لأحيائهم وتصعيب حياتهم بسبب نقص وتردي الخدمات، وغلق الطرق المؤدية إلى مساكنهم في مواسم رمضان والحج، وشدة الزحام وصعوبة الحركة، إذ لم يتم تطوير منظومة الطرق ومحاور الحركة ولا النقل العام على مدى عقود، وأما هجْر التجارة فهو بسبب التراخي من قبل الجهات المعنية بشؤون التجارة والتنمية في مكافحة التستر حتى باتت المحلات حول الحرم خالية من أي مكي وصفيت لصالح المتسترين والمتستر عليهم..

وبغياب المكيين من محيط الحرم يغيب في مكة مفهومان أو مبدآن أساسيان، الأول متعلق بتحقيق رسالة مكة كمدينة جامعة للمسلمين وقبلة لهم، والثاني متعلق بكونها مدينة مأهولة ينبغي أن تتهيأ لها ظروف التطور والحياة الكريمة لسكانها وزوارها، هذان المفهومان هما التعارف، والتنمية المستدامة.

إن تحقيق مفهوم التعارف بين المسلمين لا يتحقق إلاّ بتواجد أهالي مكة في محيط المسجد الحرام سكاناً وتجارا ومطوفين، فأهل مكة هم العامل الأساسي المساعد على التقاء الشعوب والقبائل من المسلمين في مكة والمشاعر المقدسة..

وكذلك مفهوم التنمية المستدامة التي تسعى لتحقيقه خطط التنمية المتتالية لا يتحقق إلاّ بتمكين السكان المحليين لأي مدينة في مجالات التجارة والعمل والخدمة.. فالسكان المحليون لأي مدينة أو أي تجمع إنساني هم الركيزة الأساسية لتحقيق أي تنمية مستدامة..

بقي أن أقول بأنه يحضرني مما بقي من الأحياء القديمة جبل الشراشف وبئر بليلة والمصافي والسد، وبقي فيها وفي غيرها من الأحياء بعض البيوت القديمة وبعض الآثار والمعالم التاريخية فهل من سبيل إلى العناية بها وتطويرها بذهنية مبدعة بعيداً عن ذهنية البلدوزر؟!! .. آمل ذلك. 

مكة 1436/1/24هـ