في الحج .. الخدمات أولا

لو تأملنا ما يجري في مواسم الحج سوف نتأكد أن الحج أولاً وأخيراً خدمات..


فبدءا من تقديم الحاج أو من يمثله طلب تأشيرة الدخول للمملكة لأداء مناسك الحج، وانتهاءً بالمغادرة من منافذ المملكة الجوية والبرية والبحرية هناك سلسلة طويلة من الخدمات التي يتلقاها الحاج.


فمنح التأشيرة خدمة، والسفر بالطائرات والسفن والسيارات خدمات، والاستقبال في المطارات بما في ذلك الجوازات والعفش خدمات، الاستقبال والسكن في مكة خدمات، توفير وسائل النقل والتصعيد إلى منى وعرفات خدمات، والإسكان في منى وعرفات خدمات، وتوفير الأكل والشرب (الإعاشة) خدمات، وتوفير وسائل النقل منذ الوصول وحتى المغادرة خدمة، نقل المرضى وعلاجهم خدمات، وإجراءات نقل وغسل ودفن الموتى من الحجاج أو نقلهم إلى بلادهم كلها خدمات، وإرشاد التائهين خدمة، وتوفير المياه والكهرباء والاتصالات والطرق خدمات.


وبرغم ذلك لا يزال الهم الأول لدينا منصبا على أمن الحجاج، إلى الحد الذي أبطأ على الأقل تطوّر الخدمات. إن تضخم هذا الهاجس في رأيي أدى إلى هيمنة الإدارات المرتبطة بالأمن على منظومة الحج، وانعكس أثر ذلك على معظم مشاريع تطوير البنى التحتية والخدمات.
فعلى سبيل المثال مشروع الخيام المطورة في منى الذي بدأ تنفيذه عقب الحريق الكبير يوم التروية من حج عام 1417هـ كان استجابة لصوت الأمن دون صوت الخدمات، ولذلك لم يعالج جذرياً إلاّ مشكلة تكرار نشوب الحرائق في مشعر منى، وتجاوز أو بالأحرى لم يولِ بقية الخدمات ما تستحقه من عناية.


فبديل الخيام للإسكان في منى يمثل حلاً جامداً لواقعٍ متغير، فهو ذو طاقة استيعابية ثابتة ومحدودة بينما أعداد الحجاج متزايدة، ومحدودية المساحة لمشعر منى وعدم إمكانية التمدد الرأسي للخيام فرض تضييق المساحات لكل الخدمات وجعلها عند حدودها الدنيا؛ سواء داخل المخيمات مثل دورات المياه والمطابخ والممرات وحتى المساحة المخصصة للحاج، أو خارج المخيمات مثل الطرق والمطاعم والبقالات والصيدليات وغيرها من احتياجات حياتية لملايين سكان المشعر.


وبمرور الوقت وزيادة أعداد الحجاج تراجع أداء كل الخدمات المشار إليها، وتقلصت المساحة المخصصة للحاج من 1.6 متر مربع إلى ما دون 1 متر مربع، وبات المخيم المخصص لسكنى 2500 حاج مخصصاً لأكثر من أربعة آلاف، مع ثبات أعداد دورات المياه ومساحات المطابخ والممرات. فضاقت المساحات على الحجاج (النظاميين) فافترش بعضهم ممرات المخيمات والشوارع المجاورة، وتراجعت الخدمات داخل المخيمات، وأعيقت حركة التنقل خارجها سواء للحجاج من أجل الرجم أو لمقدمي خدمات الطعام أو النظافة أو الإسعاف والخدمات الصحية..


وهذا الضيق أعاق حتى المهام الأمنية وأجبر الجهات المسؤولة – في تصوري - على إطلاق حملات منع الناس من الحج إلاّ بتصريح، وملاحقتهم على مداخل مكة، وإلى تجريم الحج بلا تصريح، وإصدار عقوبات قاسية.


ولولا أن الحس الخدماتي كان ضعيفاً ومتوارياً خلف الحس الأمني لما تم فرض بديل الخيام بديلاً وحيداً حتى اليوم برغم كل التراجعات التي نشهدها في كل الخدمات في مشعر منى وتبعاتها التي تكاد تهدر جهود وسمعة الدولة التي تبذل أموالاً طائلة وجهوداً جبارة من أجل خدمة ضيوف الرحمن، ولتم الجمع بين أكثر من بديل إلى جانب الخيام وأهمها بناء السفوح الذي صدرت الموافقة عليه منذ عام 1398هجرية.


بقي القول بأن تحقيق أهداف الدولة في إكرام ضيوف الرحمن مرهون بذهنية ترى أن الحج في الأساس منظومة خدمات، وأن المبالغة في التركيز على الأمن سيفضي بالضرورة إلى ضعف الخدمات وقد يحبط تحقيق أهداف الدولة ويرتد حتى على الأمن بالضعف.. والله أعلم.  

صحيفة مكة 1436/1/10هـ