يا مسؤولين.. مكة ليست الحرم فقط
قبل ثلاثين عاما عندما غادرت مكة المكرمة، المدينة التي ولدت بها وعشت فيها قرابة السبعة عشر عاما، كنت أعتقد أنه لن يطيب لي المقام خارجها أبدا. هذا الشعور تبدد بعد أسبوع واحد من الإقامة في مدينة جدة، وهي في كنف أمينها الأسبق المهندس محمد سعيد فارسي.
اليوم وأنا أعود إليها ولكن للعمل بها، أجدني أختار القرار الصعب بالصعود إليها والنزول منها في رحلة تستغرق ساعتين ونصف الساعة يوميا، على الخيار الأصعب.. بالعيش بها.
هذا الأمر لا يعني أن جدة اليوم ما زالت تحتفظ ببريقها السابق، ولكن كما يقال في المثل الشعبي «نص العمى ولا العمى كله».
لعل البعض البعيد قد يستغرب هذا الحديث عن مكة المكرمة، عطفا على الاهتمام الرسمي من أعلى سلطة في البلاد بالمدينة المقدسة، وحركة الإنشاءات التي لا تخطئها العين، سواء بالرؤية المباشرة أو عبر شاشات التلفزة التي تنقل ذلك على مدار الساعة.
ولكن من يقيم خارج حدود الحرم أو المنطقة المركزية كما يصطلح على تسميتها، سيشعر أنه في مدينة أخرى لا تمت للأولى بصلة، فمستوى الخدمات متدن بشكل عام، ومنعدم في بعض الأحياء رغم أهولها بالسكان، والمتابعة الرقابية ضعيفة، مع غياب شبه تام للعديد من الإدارات والجهات الحكومية.
الأكيد أن القادم للعاصمة المقدسة لغير العبادة لن يجد فيها ما يستحق البقاء، فلا مدارس خاصة ترتاد، ولا مستشفيات مميزة يمكن أن تعالج بها، ولا أماكن للترفيه تقصد، ناهيك عن فوضى شوارعها المرورية والبلدية.
وإذا قرر شخص أن يدعو زوجته للعشاء خارج المنزل، فإنه بالتأكيد لن يجد خارج منطقتها المركزية مكانا لائقا بهكذا مناسبة. ولكن إن قرر المغامرة والأكل من أحد مطاعمها المنتشرة في الأحياء والشوارع، فإنه على الأغلب سيقضي باقي ليلته في طوارئ أحد المستشفيات لغسيل معدته.
ومن مفارقات مكة أيضا أن شبكة اتصالاتها الهاتفية مريعة، وخدمة الانترنت فيها تتحول تلقائيا للجيل الثالث (3G) بمجرد دخولك إليها من أحد مداخلها الخمسة، بالرغم من عمل هذه الخدمة بجيلها الرابع (4G) في جميع المدن والقرى القريبة منها.
المزعج في الأمر أن هذا المستوى المتدني من الخدمات لم ينعكس يوما على الأسعار، فالإيجارات مغالى فيها، وتكلفة المعيشة مرتفعة جدا، وجميع المؤشرات تقود إلى مزيد من الارتفاعات مستقبلا، دون مبرر.
شخصيا لا أعلم ما سبب هذا التباين، هل هو الرغبة في إبقاء مفهوم مكة المكرمة مرتبطا بالحرم والمنطقة المركزية فقط؟ أم إن الانشغال بهذه المنطقة أنسى القائمين عليها ما هو خارجها؟
بقي القول إن النوايا الصادقة لبعض القائمين على هذه المدينة لا يمكن تجاهلها، ولكن النوايا وحدها غير كافية لإشباع نهم القاطنين بها، فالحياة بالنسبة لهم ليست زيارة للمسجد الحرام والصلاة فيه فقط، وإنما إلى جانب ذلك حياة متكاملة بأدق تفاصيلها وتشعباتها.. ببساطة هم بحاجة إلى مدينة تلبي حاجاتهم الروحية والحياتية على حد سواء.. فهل سيحصلون عليها؟
صحيفة مكة 1435\12\19هـ