تأملات في ذاكرة المجتمع المكي

 

في ظل هجمة التطوير التي شملت كل نواحي المملكة العربية السعودية كان لمكة المكرمة النصيب الأوفى والحصة الكبرى من ذلك التغيير.

هذا التغيير أدى إلى نوع من الحنين الطبيعي لذكريات النشأة في مرابع الطفولة ومراتع الصبا، ولكن لمكان وخصوصية ومكانة أم القرى تواجهنا مشكلة عويصة، هذه المشكلة ربما يمكن تلخيصها في محورين:الأول هو طبيعة وتركيبة المجتمع المكي ونشأته، والثاني هو وتيرة التغيير التي عاصرت أحداثا كانت مكة فيها بؤرة أغلب تلك الأحداث، ما زاد الطين بلة امتدادها على مدى ثلاثة أجيال، فهناك جيل المجتمع المكي الذي عاصر التوسعة الأولى للحرم المكي وما قبلها، وما صاحب ذلك من تخلخل الكثافة السكانية حول الحرم وانتشارها في مناطق من مكة كانت تعتبر من ضواحيها وأريافها.

ثم أتى بعد ذلك جيل لم يعرف من البيئة المكية إلا فترة الطفرة التنموية والتوسعة الثانية وما فيها من أحداث جسيمة أهمها أحداث المسجد الحرام عام 1400هـ.
والجيل الثالث هو الجيل الذي فتح عينيه على نواتج انحسار الطفرة وبداية التوسعة الأخيرة والكبرى في مكة وهي توسعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله.

ما دفعني لهذا الموضوع هو ما أراه في جيل اليوم من حنين لماضي مكة القريب مكانا ومجتمعا، يركز في بعض الأحيان على المظاهر ويتناسى الجوهر، ويحاول إحياء قديم لا يمكن إحياؤه بسبب انتفاء مقوماته التي سادت ثم بادت.

لست من المتخصصين في التاريخ ولا في علم الاجتماع، ولكنني مجرد مكي نشأ في مكة وأتيحت له فرصة للتعرف على لمحات من المجتمع المكي أيام لم تكن هناك طفرة، ثم عاصر ما استجد من متغيرات عصفت بمكة وبمجتمعها فكان منها كثير من القناعات والتصورات والسلوكيات بعضها صحيح وبعضها موهوم ومتخيل، لعل فيها إيناسا لمن يهتم بالتراث المكي مكانا وسكانا.

أبدأ فأقول، في الفترة الأخيرة نرى صحوة للاهتمام بالتراث والتاريخ في المنطقة لاستعادته وتوثيقه، والمؤسف أن تركز فعاليات تلك الصحوة كثيرا على الجوانب العمرانية شكلا ومظهرا وتهمل الجوانب الاجتماعية التي أدت إلى تلك السمات في العمران والعادات والتقاليد، وكما يفيد المثل المكي الصميم أن «التربة لا ترد ميتا»، كذلك فعندما نريد إحياء التراث المكي لا بد من إحيائه ليس بمحاولة النسخ من الماضي واللصق بالحاضر، ولكن بمحاولة التعرف على مقومات ذلك التراث التليد ومحاولة تطويره بما يواكب المتغيرات ويستجيب للمتطلبات المستجدة على نفس الأسس والثوابت التي نشأ عليها والتي تجسد الجوار العظيم لبيت الله الحرام وتحقق خصوصية المكان والمكانة.

ولعلها بداية ودعوة لمقالات قادمة لي ولأمثالي (ممن عاصر ما عاصرت) لمحاولة أن نستشرف من الذاكرة بعضا من ملامح المجتمع المكي، لبيان تلك العادات وتلك التقاليد، وهي دعوة للتنادي لمبادرات لتنمية مجتمعية واقتصادية لأهل مكة وفي مكة، كما تتطلبها البيئة المكية الحالية لا كما تصورها فلان أو علان من دهاقنة المستشارين وأساطين المخططين الذين ربما لم يعرفوا عن مكة إلا ما قرؤوه في الكتب وما تركز في مخيلتهم من خيالات لا تمت للواقع بصلة أو قرابة.

صحيفة مكة 1435/11/15هـ