دعوة لتأصيل الهوية المكية

 

عندما تنشأ المدن عادة فإن طبيعتها و سمتها العمرانية تحددها تركيبتها السكانية و الديموغرافية.  أي أن أسلوب الناس في الحياة و ثقافتهم و خصوصية المكان تفرض نوعية العمران من أبنية و شوارع و مرافق. و أي تغيير في العمران يؤثر في الناس و العكس.  إلا مكة المكرمة حرم الله الامن الذي وضع للناس كل الناس. 

و شاء جل و علا ان تكون هناك فئات معينة من الناس هي من يسكن تلك البقاع الطاهرة.

يتغيرون بتغير الظروف و لا يتغير المكان، و يؤثرون في سمته العمرانية بما تؤثر فيهم روحانية المكان و خصوصيته. لا ينفصلون عن المكان و لا ينفصل المكان عنهم. و التوسعات الحالية بكل حيثياتها التطويرية. رغم ما بذل فيها من جهد و ما أغدق عليها من أموال، نراها إقتصرت على الجمادات و العمران. و ضربت عرض الحائط بما كان و نشأ في ذلك المكان من مجتمع أثر فيهم البيت الحرام و طبعهم بطابعه.

و ما يحدث في مكة من تغيرات في المكان و الخدمات لابد أن يرافقه تغير  في المجتمع. الكل يدرك ذلك ويراه واقعا معاشا، بل و يعاني منه.

و المعاناة مصدرها أن تلك التغيرات لا تستند على أي من الأسس و الثوابت التي نشأ عليها المجتمع المكي و تبلورت بها هويتة المكية.

إذا و الحال هذه، فلا بد من العودة للبداية و الإنطلاق منها. لا أعني البداية التي يحاول البعض إملاءها و تلقينها، و لكنها البداية التي جمعت بين تناقضات عرقية و إجتماعية و فكرية و ثقافية مختلفة، و إستطاعت أن تظهر أحسن ما في تلك التناقضات حتى ظهرت الهوية و ذلك المجتمع المكي الذي نتباكي عليه اليوم و نحاول إستنساخه كيفما أتفق.

و بعيدا عن كل الفرضيات الهندسية و التنظيرات الخارجية التي لم تطأ يوما هذه الارض المباركة.  لابد ان نعى بعض الثوابت و نحن في سعينا لتأصيل الهوية المكية.

أولاً: ان كل المدن و التجمعات الحضرية نشأت نتيجة لمصالح بشرية مشتركة بين فئات محدودة من الناس و تركيبتها هي لخدمة تلك الفئات قبل أي كان، إلا أم القرى التي نشأت بأمر إلهي لخدمة لكل الناس على دينهم الذي إرتضاه لهم سبحانه و تعالى.  و بناء على ذلك،

تكون السمة الرئيسة للمجتمع المكي هي سمة الخدمة لكل المسلمين. و بالتالي فلابد أن تمتاز تركيبتها الإجتماعية و منهجيتها بالمرونة اللازمة للتعامل مع إحتياجات كل المسلمين في هذا المكان الطاهر.

ثانيا: أن المنافع للناس في مكة لا تقتصر على المنافع الحسية و المادية. و لكن تتعداها للمنافع الروحية. بل أن المنافع الروحية هي الأساس. و هنا مرة أخرى لابد أن نرى المرونة في توفير تلك المنافع.

ثالثاً: أن القائمين بتلك الخدمات لأبد أن تكون لهم متطلبات تختلف عن متطلبات الوافدين و المتلقين لتلك الخدمات. و بناء عليه تكون لهم سمات لا يمكن أن تشبه ما يراه و يظنه من هو من خارج هذه البقعة الطاهرة. و هنا بيت القصيد.

المشكلة أن العناية و التطوير كان ولا زال للجمادات لأن تطوير الإنسان المكي لابد أن ينبع من أعماق الثقافة المكية التي بدأت من لحظة تفجر ماء زمزم..و أستمرت إلى اليوم. ولا يستطيع أن يقوم بذلك إلا من تشبع بأم القرى مضمونا أولاً، و شكلا ثانيا.  وذلك لا يكون برفض التغيير القادم و لكن بفهمه و إفهام الآخرين الخصوصية المكية لهذا الجوار العظيم.

و لنفعل ذلك ، البداية تكون من أنفسنا كأهل مكة للبحث و التوثيق و التوعية بأسس التراث المكي كمنهجية حياتية و ليس كتاريخ بائد و أثر مندثر