ضيع أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة أعظم فرصة لهم ليحولوا المدينتين المقدستين إلى أكبر سوق للحرفيين والمهنيين، ويحافظوا على تاريخهم العريق الممتد منذ عقود وتوارثته الأجيال، أبا عن جد، حتى إن من حبهم لها كانت تلصق بجانب أسمائهم حتى أصبحت ألقابا، ولن تجد أسماء مهن أو حرف موجودة كألقاب سوى في هاتين المدينتين، فالساعاتي نسبة إلى مصلح الساعات، والنجار والحلواني والطباخ والسمكري وطابور طويل من المهن تميز بها أهل المدينتين، وكانوا يتفاخرون بأعمالهم ووظائفهم، كان هؤلاء المهنيون يعملون ويشاركون أبناءهم معهم في أوقات الفراغ، ومهما بلغ الأبناء مرحلة متقدمة كانت مشاركتهم لآبائهم في المحل والعمل هي ضمن التربية المهنية، وبعضهم أخذ مهنة والده أو جده ومشى فيها، إلا أنه بعد مرحلة حينما فتحت الأبواب على مصراعيها أمام الاستقدام من الخارج، ترك هؤلاء مهنتهم وعمل آبائهم واعتمدوا على العمالة الوافدة ورموا بالحرفة بكامل ثقلها عليهم، إنهم نسوها، فلم يعد الساعاتي يصلح الساعات ولا الحلواني يعرف عمل الحلويات والحلوى، ولا حتى الخضري أصبح يبيع الخضار، وهكذا الحال مع النجار والسمكري وغيرهم. فما الذي حدث؟

للأسف الشديد الحكومة جانبها الصواب حينما فتحت باب الاستقدام على مصراعيه وأصيب المجتمع المهني والحرفي بالكسل والخمول مع المرتبات المتدنية التي يتقاضاها هؤلاء العمالة، في ذروة طفرة النفط وثروتها التي هبطت، ولم تستطع المؤسسات المهنية استقطاب الشباب وتقديم المغريات لهم وتوجيه انتباههم.

خطط التعليم لم تخلق توازنا ما بين التحصيل العلمي والمهني، تعاملت مع المهن على أنها فرص ضعيفة لكسب المال وتحقيق طموحات عالية، لهذا اتجه معظم الشباب إلى التحصيل العلمي، إنما للأسف الشديد هذا الاتجاه لم يخلق لنا كفاءات وظيفية جيدة ولا مرتبات تتوافق مع الشهادات العلمية التي يحملونها، وضاع المهنيون السعوديون الذين كانوا يملؤون الأحياء والشوارع ويجلسون في المحلات.

اليوم مع التوسع العمراني والتمدد الأفقي للتعليم، سيطر الوافدون على المهن بشكل لافت ومؤثر، في تقرير للمشروع الوطني لتنمية وتطوير الحرف والصناعات اليدوية «بارع» بالهيئة العامة للسياحة والآثار نشر قبل عامين كشف أن مكة المكرمة والمدينة المنورة تتصدر المدن السعودية في المهن والحرف اليدوية، وأشار التقرير إلى أن الاستراتيجية الوطنية لتنمية الحرف والصناعات التقليدية في السعودية، قدرت إجمالي الحرفيين بنحو 21 ألف فرد، منهم 45% سعوديون يمثلون 9248 فرداً، و55% غير سعوديين يمثلون أكثر من 11 ألف فرد. ويمثل الذكور الحرفيون 13 ألف فرد ما نسبته 63% من إجمالي الحرفيين، في حين تمثل الحرفيات 37% وعددهن 7542 حرفية. وبينت إحصائية وردت في الاستراتيجية أن 76% من الحرفيين يتوزعون بين ست مناطق هي مكة المكرمة، والرياض، والمدينة المنورة، والمنطقة الشرقية، وعسير، وتبوك، والجوف، واحتلت مكة المكرمة المرتبة الأولى من حيث الحرفيين بنسبة 16% وجاءت المدينة ثالثا بعد الرياض بنسبة 14%. وحسب التقرير فإن 30% من حرفيي السعودية يعملون في خمس حرف رئيسة هي: التطريز اليدوي، والسدو، والأعشاب العطرية، والحلوى الشعبية، والمنتجات الخوصية.

التوسع العمراني حول المسجد الحرام في المدينتين المقدستين أخذ بالمهن والحرف إلى مسافات بعيدة، لا يمكن أن تعود ما لم نعد قراءة المستقبل واحتياجات السوق، بعد أن تم احتكارها من قبل الوافدين، وأصبحوا يتحكمون في الأسعار، ودخل السوق مهنيون عشوائيون، وكل هذا يحدث أمام أعين المسؤولين وجهات الاختصاص.

الهند والفلبين والصين تجارب واقعية يجب الاستفادة منها، كيف استطاعت أن تحافظ على المهن والحرف اليدوية رغم التطور الهائل في التعليم؟، والسبب واضح أنها وازنت بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق وأيضا فتح مسار آخر للعمل وهي المهنية والحرفية. لا نطالب بعودة المهنيين السعوديين بنفس القوة التي كانت في الماضي، إنما نريد بناء قاعدة جديدة للمهن والحرف بأسلوب عصري جديد يؤسس للمهنة، وحتى تكون هناك صناعات يدوية ومهن وحرف، من المهم أن تتكاتف جهود جامعة أم القرى وجامعة المدينة المنورة والغرف التجارية ورجال الأعمال والتعليم المهني، غياب أصحاب المهن والحرف من المواطنين فتح الباب واسعا أمام الاحتيال ودخول عاملين غير مهنيين ودون توثيق من الجهات، ما ساهم في تدني مستوى الخدمة وارتفاع الأسعار.

قد يقول البعض إن عودة المهنيين السعوديين إلى سوق العمل في ظل المستويات التعليمية العالية مستحيل، أقول لهم الأمر يحتاج إلى مغريات وتسهيلات ودعم وتشجيع من القطاع الخاص ومن مؤسسات الدولة.

صحيفة مكة 1435/11/1هـ