التصويـر في المسجد الحـرام

التصوير الفوتوغرافي أصبح في أيامنا هذه من الضروريات التي لا يستغني عنها المرء سواء في الكماليات والترف أو في الأعمال والتجارة والأمن والإعلام.

ولقد انتشر في الآونة الأخيرة انتشارا واسعا بوجود كاميرات التصوير بالفيديو والثابت في كافة أجهـزة الهاتف المحمول ــ الجوال ــ ووجود برامج التواصل والواتساب ونحوها مما جعل المسافات الشاسعة الفاصلة بين الناس لا قيمة لها.

ويفرح الحجاج والمعتمرون بوجودهم في بيت الله الحرام وينقلون صورا فورية لأقاربهم وذويهم في كافة أنحاء العالم لهذه المشاعر ووجود هؤلاء الحجاج والمعتمرين فيها في الطواف والسعي وصور الكعبة والطائفين. وكل هذا يبعث الغبطة والسرور والفرح والارتياح النفسي في نفوس المسلمين حيثما كانوا.

بل تحرص وزارة الثقافة والإعلام على نقل شعائر الصلوات من بيت الله الحرام وشعائر الحج في منى وعرفات ومزدلفة وإرسالها إلى كافة وسائل الإعلام التلفزيونية في كافة الدول عبر الأقمار الصناعية فأصبح الناس من المسلمين وغير المسلمين في كافة أنحاء العالم في الدول الإسلامية وغير الإسلامية في أوروبا وأمريكا يستمتعون بهذه المشاهد. بل إن كثيرا من مفاهيم الناس الخاطئة التي كانت في أذهان الناس في دول أوروبا وأمريكا عن الإسلام والمسلمين تغيرت وأصبحت واضحة ومشرقة لحقيقة هذا الدين ومحاسنه.

كما أن الدوائر الرسمية التابعة لحكومة خادم الحرمين الشريفين سواء كانت من الوجهة الأمنية لمراقبة المفسدين ومخططاتهم أو الاعتبارات الأمنية والسلامة من حيث مراقبة الحشود وتكدسات الناس وحركاتهم في الطواف والسعي والدخول والخروج من وإلى المسجد الحرام، كل هذه الدوائر والجهات لها مراكز للتصوير والمراقبة عن بعد لتحقيق أهداف هذه الإدارات في منع حدوث اضطرابات أمنية من المفسدين ومنع وقوع الخطر في التدافع والزحام. إدارة مراقبة حشود المعتمرين مثلا الخاصة بالدفاع المدني فقط لديها نحو 750 كاميرا منتشرة في مواقع لمتابعة حركات الحشود ولتحقيق أهداف السلامة. كما أن كافة أبواب المسجد الحرام يوجد فيها كاميرات خفية لاكتشاف أي أسلحة أو مواد تفجيرية ونحو ذلك حين دخولها إلى الحرم.

والسؤال الوارد هنا هو: ماحكم هذا التصوير مجددا من حيث هو كان في المسجد الحرام أو خارجه.

والشيء أو الفعل المحرم يكون محرما لذاته فلا معنى للتفريق بين كونه في المسجد الحرام أو خارجه.

الإثم لاشك يزداد في حال ارتكاب هذه المحرمات في هذه الأماكن المقدسة ولكن هذا لا يغير من طبيعة الحكم الشرعي.

فالخمر مثلا محرم شربه في المسجد الحرام وخارجه، وإن كان إثم شربه في المسجد أكبر، فهل التصوير في حد ذاته محرم؟

لقد ذكر القرطبي (271/14) في تفسيره حديث عن أم المؤمين عائشة رضي الله عنها رواه مسلم أنها قالت (كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا)، وعنها رضي الله عنها أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال لها (أخريه عني) فقالت فأخرته فجعله وسادتين. هذه خلاصة الأحاديث في هذا الموضوع.

وذكر القرطبي في تعليقه عليها أن قوله عليه الصلاة والسلام (أخريه عني) وقوله (حولي هذا) فإن هذا من باب الورع. ولم يختلف العلماء، قال القرطبي إن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة وغير محرمة. بل إن إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام بوجود هذه التصاوير وهي عبارة عن رسوم أو نقوش على أنسجة الأقمشة وليست مجسمات ثلاثية الأبعاد فيه دلائل على جواز التصوير ولو كان محرما لما قال عليه الصلاة والسلام (أخريه عني، أو حولي هذا) بل كان يأمر بإتلافه ويحرم فعله بصريح القول وينهى عن ذلك ويقحمه على الناس أجمعين.

وفرق بين المكروه والمحرم. فالمكروه يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله والمحرم يثاب على تركه ويعاقب على فعله.

فتخلص من هذا أن التصوير المعهود في هذه الأيام بالكاميرات الخاصة أو بالجوالات ونحو ذلك جائز لا حرج في فعله لاسيما أنه أصبح ضرورة من ضروريات الناس في حياتهم اليومية ومصالحهم. ولقد أنكر صاحب أضواء البيان محمد الأمين الشنقيطي (510/5) هذا التصوير في بيت الله الحرام كما أنكر مؤخرا فضيلة الشيخ صالح الفوزان في صحيفة الاقتصادية (8 رمضان) حيث قال فضيلته في مقالته: إن هذا التصوير في الحرم منكر وأذى ويجب كسر آلات المصورين.

ولعل هذه الأقوال في غير محلها من جهتين الأولى إجماع أهل العلم كما ذكره القرطبي في تفسيره (271/14) على أن التصوير بالمعنى المعهود في أيامنا هذه إنما هو مكروه وليس محرما.

بل ذهب فريق من أهل العلم كما ذكره ابن عاشور في التحرير (302/1) وابن حيان في البحر المحيط (255/5) إلى إباحة التصوير بالمعنى المعهود في أيامنا هذه.

وإنما جاء النهي في التصوير بمعنى النحت الجسدي ثلاثي الأبعاد مثل الأصنام والتماثيل.

والثانية أن تخصيص الحرمة في بيت الله الحرام لا معنى له لأن المحرم محرم لذاته وليس لكونه في بيت الله أو خارجه.

عكاظ 1435/10/6هـ