وداي (عُمْق) وعُمْق إشكالاتنا

دون الدخول في ظاهر تفاصيل أزمة وادي عمْق في مكة المكرمة، باعتبارها تعديات على أراضٍ حكومية، وعدم امتلاك أصحابها صكوكا شرعية تثبت ملكيتهم لها، ودون التعرض للخطاب الذي تداوله الناس حول عزم لجنة إزالة التعديات التوجه لوادي عمق ونفْي معالي أمين العاصمة المقدسة للخطاب، ثم ما لبثت الإمارة أن أعلنت عما يثبت صحة فحواه، وتوجه معدات الإزالة إلى الوادي لمباشرة ما أعلن عن إزالته، ثم نجاح الأهالي في وقفها وإقناع الإمارة بتأجيل الإزالة لحين التحقق من صحة التملك والبناء هناك.. أقول بعيداً عن هذا وذاك أود الحديث عن عمق مشكلة تملك الأراضي في عموم مدن المملكة وفي مكة المكرمة على وجه الخصوص.


فقد دأبت أمانة العاصمة المقدسة منذ عقود مضت على تخصيص أراضي منح ذوي الدخل المحدود في مواضع بعيدة جداً عن وسط المدينة، وحتى بعضها يقع خارج حدود الحرم كما هو في مخططات الشرائع ومخططات ولي العهد، وتوزيعها على أصحاب هذا النوع من المنح دون توفير أي من الخدمات (كهرباء ـ ماء ـ صرف - هاتف) لمدد طويلة تصل لأكثر من عشرين وثلاثين سنة، هذا في حين نجدها تطبق منحا كبيرة وسط المدينة وحتى قرْب المسجد الحرام، وتعتمدها لأصحابها كمخططات لتتم إعادة بيعها بأسعار خيالية مقارنة بكلفة الحصول عليها كمنح مجانية أو بنظام وضع اليد والإحياء الشرعي.


ونظام الإحياء الشرعي - وكذلك المنح - اُستغل أسوأ استغلال من قبل البعض، بسبب تطبيقه دون ضوابط محكمة. فالإحياء الشرعي في ظني يستوجب أن يكون إحياءً فعلياً وليس صورياً، ولغرض محدد كبناء مسكن أو مصنع أو مزرعة ـ وكذلك المنح -، وليس لتحويله لمخططات لتباع على الغلابة والفقراء، ويستوجب كذلك المتابعة للتأكد من تحقيق الإحياء خلال مهلة محددة، وإلاّ استعادة ما مُنح أو ما تم الادعاء بإحيائه، ليعود لبيت مال المسلمين.


إن غالب المواطنين من متوسطي الحال والفقراء لا يطمعون في أكثر من أرض يقيمون عليها مسكن يؤويهم، وليس لهم مطمع في مساحات شاسعة كما هو حال أهل الدثور والنفوذ، وبالتالي فهم الأولى برعاية أمانات المدن وعموم الجهات الحكومية، التي يجب عليها توفير الأراضي لهم داخل المدن، حيث توافر الخدمات والقرب من أعمالهم وعموم حاجاتهم الحياتية.


هذا الواقع أدى إلى شح الأراضي الصالحة للسكن، وارتفاع أسعارها إلى مستويات يصعب على غالبية المواطنين - وبالأخص أهالي مكة - دفع أثمانها، وهو ما يدفعهم إلى البحث عن أي مساحة داخل المدينة لبناء مساكنهم عليها، ولعل هذا يُفسر كوْن مكة أكثر مدن المملكة احتواءً للأحياء العشوائية.


ومما سوف يُعمّق مشكلة التعديات والعشوائيات في مكة المكرمة ويزيد رقعتها ما يجري الآن من نزع عدد من الجهات الحكومية لآلاف الملكيات وإزالة آلاف المساكن دون العمل على توفير البدائل المناسبة والكافية، وهو ما سوف يبقينا في محاولاتنا لمكافحة التعديات والعشوائيات ندور في حلقة مفرغة ونكون كمن يناطح الصخر.


خلاصة القول: إن عُمْق الإشكالية يتمثل في نظام المنح ونظام وضع اليد اللذين سُخرا على مدى العقود الماضية لمصلحة أهل النفوذ والدثور، ومن اقتفى أثرهم وتعلم منهم حيل الإحياء من أجل المتاجرة وإعادة البيع، وهو ما تسبب في النهاية في شح الأراضي وارتفاع أسعارها ودفع الناس إلى التعدي وعشوائية البناء. والحل الجذري - كما أراه - يبدأ من العدالة في توزيع الأراضي.

مكة 1435/7/20هـ