قراءات فسيفسائية للبيئة الحجازية (1-2)

لتلك المفردات التي يقرأها المتأمل في ثقافة البيئة والعمارة في مدن مكة والمدينة وجدة.. وما تتجلى لنا به تلك البيئة الحجازية وثقافة مجتمعها، نجد أننا أمام لوحة فسيفسائية، لا شك أننا نستمتع بقراءة نمنماتها بالعين قبل العقل، حين يقف عندها المتأمل مدققاً في تفاصيلها، مستمتعاً بقراءتها تاريخياً واجتماعياً.


الحارة في المجتمع المكي مثلاً، تشكل مجتمعاً صغيراً بكل تكويناته، وكانت حارات مكة المشهورة، أغلبها تحيط بالمسجد الحرام، من كل جوانبه، وقد سُمي بعضها بأسماء الجاليات التي استوطنت مكة منذ القدم، ومنها أحياء الشامية والسليمانية وجبل هندي والطندباوي، وكانت بعض الأحياء القريبة، تؤدي لأبواب الحرم من نواحيه الجغرافية المختلفة، كأحياء الشامية، أجياد، القشاشية، الشبيكة، قاعة الشفا، العمرة، الجودرية والغزة، وهناك أحياء لا تبتعد عن المسجد الحرام ولكنها تعد داخل حدود الحرم وفي نطاقه، كأحياء القرارة، الفلق، حارة الباب، المسفلة، المعابدة، الحجون، جرول والمعلاة. إضافة إلى أحياء على الجبال المحيطة بالحرم سميت بأسمائها، كجبل هندي، جبل الكعبة، جبل قبيس وجبل خندمة. مجتمع الحارة في مكة له أصالته وعراقته، وطبيعته، الكل يشعر بمسؤوليته نحو حارته وأبنائها. يعيشون في تآلف وترابط نفتقده اليوم كثيراً. سعدت بأن كنت من ذلك الجيل، الذي عاش بين الجيل القديم وجيل الحداثة، في ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه الحياة على بساطتها وقلة وسائل المتعة والترفيه فيها كانت أفضل وأجمل..


لنتساءل ألن نتأثر بأحداث شهامة رجال المسلسل الشامي «باب الحارة» ورقة وحنو وطاعة نسائها وأهل الحارة، كانت حارات مدن الحجاز، تتماهى مع مثالياتها وأريحيتها، وما تجلى لنا من مواقف شخوص، من شهامة ورجولة وجمال وعفاف، كما أن تلك الصورة التي بهرت جيل هذا اليوم في التكافل والتكامل بين جميع أفراد الحي والجماعة، كانت موجودة ومؤصلة بثقافتها ولغتها ومفرداتها في مجتمع مدن الحجاز. كان الحرم المكي هو المصلى والمدرسة، يجمع أهل العبادة وطلاب العلم، وكان بعض الطلاب يهربون من مدارسهم ليختبئوا في الحرم، تأخذهم أحياناً دروس العلم فيه، ولا يكون الهارب منهم كاذباً حين يحتج بغيابه عن المدرسة، لأن درساً في المسجد الحرام لأحد المشائخ من العلماء، قد أخذه الوقت في سماع درسه، كانت لجدي الشيخ عبدالحميد قدس إمام الشافعية بالمسجد الحرام في أحد أروقة المسجد الحرام حلقة درس، بباب السلام في السيرة النبوية وأصول الدين واللغة والبلاغة، وكان لذلك أثره الواضح في نفسي وفي تكويني الثقافي.


حين شاركت في برنامج الكُتّاب المبدعين في العالم الذي أقامته جامعة أيوا في الولايات المتحدة (خريف عام 1995م)، تمت ترجمة بعض أعمال قصص المشاركين، من قصص وأقصائد، وقد اختارت الجامعة ترجمة قصة «أخبار خالتي رقية»، من مجموعتي القصصية الأولى «نقطة الضعف» التي ترجمتها الأديبة الأمريكية أفا مولنار، وكانت أحداث القصة تدور في حي شعبي من أحياء جدة القديمة، لم أستغرب الاهتمام بهذا النص، لما احتواه من صور للبيئة الحجازية وتراثها، وتم التركيز على مفردات تضمنت النص، كـ «الروشان»، «الدهليز»، «الطاقة» و «اللغوصة» أي النميمة ونقل الأخبار الكاذبة، حقيقة وقتها استمتعت خلال مشاركتي المشاركين وطلاب الجامعة في تفسير دلالات تلك المفردات ومعانيها، وما تتسم به البيئة الحجازية من خصائص ومميزات، ونحن نعلم كيف عشق الرحالة المستشرقون والفنانون التشكيليون العالميون البيئة العربية والثقافة العربية من خلال لوحات فنية تهتم بأدق التفاصيل الفسيفسائية في البيئة العربية وثقافة المجتمع في مصر والشام والحجاز، ومفردة «الروشان» استهوت الفنانين والروائيين، وتوقف عندها المؤرخون خلال تدوين مشاهداتهم طويلاً، والحديث موصول..

الشرق 1435/7/2هـ