عبدالوهاب أبو سليمان.. فقيه مكة

 

هبات الحجاز لا يمكن عدها ولا وصفها، ولا اللحاق بها أبداً؛ إنها ريادة الزمن والحضارة، والأنسنة قبل ميلادها، وحينما تُشرق على الجهات الأربع، ويسيل هواها الوسطي العذب في الطرقات المختلة نشتاق إلى عقل حجازي آسر يعلمنا رقة الحياة من جديد، ويُخرجنا من أيام العته، والتصحر، والفجاجة المنظمة، ولذلك لا تلومونا حينما نحلم -ساعة ملل الرتابة والتكرار- بأمثال فقيه مكة الكبير الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان؛ لا لشيء إلا لأننا نحاول بذلك الحلم الوحيد أن نطمئن على الأمل، والتوازن، والعودة المنتظرة لانسياب الجداول..


المشكلة أن التليفزيون الرسمي في كل مكان رسميٌ أكثر من اللازم، ولذلك فهو نادراً ما يبحث عن الوجوه الصافية والنقية والموعودة أبداً بالزهو، وتغيير لهجة الألوان، وسبر الأعماق؛ في العادة يقرأ التليفزيون الرسمي حروف الهجاء من أولها ثم سرعان ما يتوقف عند الحرف الرابع أو الخامس، وهذه ليست كل حروف الهجاء بالطبع؛ لكن كل تليفزيون رسمي وفيٌ بطبعه لزمان الأبيض والأسود، وطاولة الحديد التي لا تتغير، ولديه دائماً الاستعداد الأزلي لقطع الإرسال لأي عصف ذهني..


وجه الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان مشرق أكثر من اللازم، وربما لا يتماشى مع اشتراطات الإضاءة داخل أي غرفة بث تشتغل على بطارية قديمة، ومن الصعب أن يُصبح وجهاً تليفزيونياً مألوفاً في زمن الماكياج والشعوذة، والتفل العبوس في الماء؛ مع كل ما لديه وفيه من الفقه والألق والتسامي.. ألا يكفيه أنه البقية الباقية من علماء مكة؟


سيمر الزمن وسيرحل الفقهاء تباعاً، وسيأتون في كل عصر بما لذ وطاب من الاجتهادات والأفكار والرؤى التي تتجاذب العصرنة، وتحاول التمسك بأهدابها، سيتكاثر الحفظة في كل عصر، وسيخرجون عجائب التراث، وحينما يقرأون مقولة الشيخ «لسنا بحاجة إلى فقيه يحفظ النصوص» سيشعرون بالخجل، وسيستبعدون من الذاكرة كل ما حفظوه ولم يفقهوه لعلهم يفقهون..


غياب الشيخ عبدالوهاب عن الإعلام قد يكون خياراً شخصياً، وربما هو إرادة تفرغ لتجويد البحث والكتابة، وقد يستغرب الحفيون فيقولون إنه تهميش متعمد، ومهما كان الأمر فغيابه أو تغييبه خسارة فقهية بكل المقاييس، ولو قدر للشيخ أن يطل علينا كل أسبوع فسنرى ألواناً جديدة هذا وقتها بلا ريب؛ فمثله يستطيع أن يعلمنا الفوارق الحية بين عصر الديناصورات، وعصور الكهرباء، ولا أظن أن أحدًا من السادة النظارة سينحرف إن رأى بسمة فقه وحيدة على الشاشة تبعث الدفء والحضور، وتختصر مسافات العصر المبسط!!


بقي ثلاثة أسئلة: كم من السعوديين يعرفون اليوم أن الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان هو أحد أعضاء هيئة كبار العلماء البارزين علماً وفقهاً وإنتاجاً منذ 6/6/ 1413هـ؟! ومن منهم فكر يوماً في استفتائه؟ وكم صحيفة سعودية كتبت في صدر صفحتها الأولى ذات يوم صحو: «أفتى فضيلة الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان …»؟!!

الشرق 1435/4/1هـ