أزمة المجتمع المكي مع الفكر والثقافة الإقصائية

المراقب بهدوء لما يجري في الساحة الفكرية المكية، والمتابع لتطلعات المكيين وطريقة تعاملهم داخل مكة وخارجها، خلال نصف قرن من الزمان، يلاحظ البون الشاسع بين ما كان عليه الإنسان المكي في بداية القرن الرابع عشر الهجري، وبين ما أصبح عليه منذ مطلع القرن الخامس عشر إلى اليوم.
فطبيعة المجتمع المكي التي نشأت، منذ زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، على التنوع الشديد في الثقافة والفكر جعلها، كما يذكر التاريخ، منبرا للثقافة والحضارة في شبه الجزيرة العربية. ورجالات مكة، كما عامة الناس فيها، كانوا يتمتعون بمرونة طبيعية في تقبل مختلف الرؤى والأفكار، والتعامل معها دون أن يؤثر ذلك في ثوابتهم الأيديولوجية والعقائدية كأصحاب أعظم وأشرف جوار.


كل ذلك أفرز ثقافة وحضارة كانت لها سمة الريادة والقيادة، وكان من الصعب جدا تفهمها واستيعابها من قبل المجتمعات التي نشأت على أحادية الفكر ومنهجية إقصاء المختلف. وعلى الرغم من أنه يمكن تفهم دور أحادية الفكر في حماية التركيبة الفكرية للمجتمعات المغلقة والبسيطة، إلا أن مجتمعا نشأ على النهل من تعددية الثقافات الإسلامية التي تمر عليه سنويا والاستفادة منها في صقل ثقافته الخاصة، تصبح مسألة فرض أحادية الفكر والثقافة بالنسبة له معيقة ومشوهة لثقافته إلى الحد الذي يغير أسلوب حياته اليومية ويؤثر في نظرته للآخرين وحكمه عليهم.


ذلك التشويه الذي نراه انعكس اليوم في كم كبير من السلبيات، يعاني منها أبناء مكة أنفسهم قبل غيرهم. ولعل من السخرية أن يتحول مجتمع كان هو من أرسى كثيرا من أسس الدولة الحديثة، إلى أكثر مجتمع يعاني من كل أمراض البيروقراطية واللامبالاة والإنغلاق وتقلص روح الإبداع والمبادرة، إلا من رحم ربي. والناظر اليوم في الشخصية المكية المعاصرة، يرى كثيرا من الصفات التي لم تكن يوما سمة لأهل مكة، ناهيك أن تكون سمات لأشخاص شاركوا بفعالية في تأسيس وقيادة أمة.


ولعل أوضح مثال، يتجلى في أداء كثير من أهل مكة في المجالات الإدارية والقيادية. فنجد الكثير من الإنغلاق وعدم القدرة على تقبل الجديد بل ومقاومة التغيير بشدة. وتفسير غير صحيح للمتغيرات. وجنوح مرضي للعيش على أمجاد الماضي شكلا دون مضمون. ومما زاد الطين بلة، محاولات إصلاح الأوضاع بمن يعتنق مبدأ الفكر الإقصائي والثقافة الأحادية إلى حد الثمالة فكان أن زادوهم رهقا.


إن المجتمع المكي والجيل الجديد من أبناء مكة، رجالا ونساء، لفي أمس الحاجة إلى حملة لإعادة تأهيل الفكر، حملة مكية المنشأ أصيلة الأساس والمنطلق لانتشالهم من هوة التجهيل الذي نتج عن فرض تطبيق فكر إقصائي ممنهج الذي ربما طال كل المجتمعات السعودية ولكن المجتمع المكي بشكل خاص كان أشد المتضررين منه، بسبب تعارضه الشديد مع طبيعته الفكرية والثقافية. لا سيما وأن البيئة المكية، مكانا وسكانا، تمر في الفترة التي ذكرت، بمنعطف خطير ومرحلة تغير جذرية لم تكن أكبر منها إلا مرحلة التحول من الجاهلية إلى الإسلام. ولعل ما يقال عن المجتمع المكي ينسحب على كل المجتمعات الحجازية وإن كان بنسب متفاوتة.


من المنطلقات السابقة يمكن أن نستشف ملامح أساسية لإعادة التأهيل، وأول تلك الملامح هو وجوب البعد، كل البعد، عن التقليدية والمثالية غير الواقعية التي سادت وأجهضت كثيرا من المبادرات. ومن الملامح كذلك التركيز على أساسيات وسمات نشوء المجتمع المكي وأولها حق الجوار وطبيعة البيئة المكية وما يميز أنشطتها وفعالياتها الدينية والاجتماعية.


ولابد أن نعي أن أهل مكة أناس قيض لهم المولى جل وعلا العيش في هذا الجوار، بدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (إبراهيم37). وهم ليسوا ملائكة ولهم متطلبات إنسانية، مثلهم مثل أي مجتمع آدمي على وجه البسيطة. ولعلنا يجب ألا ننسى أن كثيرا من العادات المكية الطيبة، لم تنشأ بوحي ولم تقرر بقرآن منزل، بل كانت نابعة من متطلبات طبيعية وأساسية لأناس عاشوا بشكل طبيعي في أشرف بيئة وأكرم جوار. فكانت الأخلاق والثقافة والتعاملات التي هذبها الجوار، وصقلتها خصوصية المكان والمكانة.

مكة 1435/3/18هـ