ملتقى مكة الخامس: الثقافة والإعلام

يعتبر نادي مكة الثقافي الأدبي من أعرق الأندية الأدبية بالمملكة، وأكثرها نشاطاً وإنتاجاً بما قدمه خلال عقود مضت ومازال يقدمه من فعاليات ويصدره من إصدارات للأدباء والمفكرين والمفكرات، وتربطني بهذا النادي روابط وثيقة منذ بدايات تأسيسه وحتى اليوم، بحكم ارتباط جذوري بالبلد الحرام، ولأن القائمين عليه في الماضي والحاضر هم من أساتذتي أو زملائي أو طلابي ولله الحمد والمنة.


وقد سن هذا النادي العتيد سنة حسنة بعقد ملتقى سنوي، يعد بحق مؤتمراً علمياً يرقى إلى درجة العالمية بأهمية موضوعه، وتنوع محاوره وإبداع المشاركين والمشاركات فيه، ومواكبته لقضايا العصر المهمة.


وقدم النادي حتى الآن خمسة ملتقيات كان آخرها ملتقاه الخامس في الفترة من 5/2/1435هـ إلى 7/2/1435هـ، وكان عنوانه: «الثقافة والإعلام: توافق تضاد، تكامل»، وشهد حفل افتتاحه ليلة الأحد 5/2/1435هـ حضوراً كثيفاً لم أرَ مثله في مناسبات ثقافية كبيرة داخل المملكة أو خارجها، والكثافة هنا تعني عدد الحاضرين والحاضرات الهائل كما تعني حضور النخب من المفكرين والأدباء والمثقفين والعلماء إضافة إلى بعض كبار المسؤولين يتقدمهم سعادة الدكتور ناصر الحجيلان وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، وقد زاد هذا الحفل وهجاً وبريقاً ما ضمّه من لفتات رائعة بتكريم أديب وكاتب كبير هو الأستاذ عبدالله عمر خياط، وأديبة وكاتبة كبيرة هي الأستاذة خيرية السقاف. ولكل منهما تأريخ حافل في خدمة الكلمة الصادقة في ساحتنا الثقافية على مدى عقود، وقد أجمع الحاضرون –ممن تحدثت معهم في هذا الحفل على أن اختيار الشخصيتين كان موفقاً دون أدنى شك. ومن اللفتات الرائعة كذلك في هذا الحفل المميز بكل المقاييس أن قدمته شخصيتان إعلاميتان لامعتان من جيل الإعلاميين السعوديين الذي يمثل مدرسة إعلامية بكل ما تعنيه الكلمة، مدرسة تدرب وتعلم فيها كثير من إعلاميينا وإعلامياتنا من جيل الشباب والجيل الذي سبقه –وأنا واحد منهم- والشخصيتان هما: سعادة الدكتور حسين نجار، وسعادة الأستاذة دلال عزيز ضياء، وقد تشرفت بالعمل معهما لسنوات عدة في إذاعة جدة. وأعادتا بتقديمهما العذب إلى زمن الأصوات الإذاعية الشجية، زمن اللغة المستقيمة المنضبطة، زمن الإعلام الجميل والجليل.


وما أحسن الفيلم التسجيلي الذي عرض في الحفل الذي ضم تسجيلات من برامج إذاعية وتلفازية قديمة، بعثت فينا الشجن وأعادتنا إلى عهود الصبا والشباب، وملأت أعيننا بالعبرات ونقلتنا إلى عالم بديع مازلنا نذكره، ونتمنى أن يتعرف عليه أبناؤنا وأبناء أبنائنا.


ناهيكم عن كلمات بليغات سمعناها من سعادة الدكتور ناصر الحجيلان الذي أعُده بحق من خيرة الأدباء المفوّهين بلغته الرصينة وعلمه الغزير وتناول لمفهومات حديثة جداً في علوم الأدب واللغة والإعلام كتناوله الدقيق لمصطلح الخطاب: Discourse في كلمته وبيانه لمعنى هذا المصطلح الذي يغيب عن كثير من الناس، وسواه من المفهومات والمدلولات.


وكلمات الأخ الكريم والزميل الكبير سعادة الأستاذ الدكتور حامد الربيعي رئيس مجلس إدارة نادي مكة الثقافي الأدبي التي فيها الكثير من نكران الذات ونسبة الفضل إلى فريقه العامل معه بعد عون الله تعالى، فما برح يذكر أعضاء هذا الفريق فرداً فرداً في ثنايا كلمته حتى ختم ثم عاد ليشكر بعضهم، وأثار هذا المسلك الأخلاقي الحضاري إعجاب كل الحاضرين، كما أثار إعجابهم ما سرده أ. د. الربيعي من أنشطة وفعاليات وإصدارات النادي التي تفوق في أعدادها وتنوعها ومضامينها ما تقدمه مؤسسات ثقافية كبرى تفوق إمكانياتها إمكانيات نادي مكة أضعافاً مضاعفة.


ثم توالت جلسات الملتقى العلمية يومي 6 و7/2/1435هـ لتبلغ سبع جلسات صباحية ومسائية، شارك فيها باحثون وباحثات من جامعات ومؤسسات علمية عدة وقدموا خلالها ثلاثة وعشرين بحثاً وورقة علمية رصينة، عرضت ونوقشت بشفافية وأريحية تامتين.


واللافت أن هذه البحوث جميعاً طُبعت وصدرت في سفر ضخم وُزع على المشاركين خلال أيام الملتقى، وهو أمر نادر الحدوث في أكبر المؤتمرات العلمية العالمية (ولا ينبؤك مثل خبير)، وخرج الملتقى بعدة توصيات من أهمها: تحويل أقسام الإعلام بالجامعات السعودية إلى كليات مستقلة (وهو ما نفذته مؤخراً جامعة الملك عبدالعزيز)، وإعادة التفكير في تحويل الأندية الأدبية إلى مراكز ثقافية، وتشكيل لجان إعلام ثقافي داخل المؤسسات الثقافية، والانفتاح على الإعلام الجديد، وزيادة التعاون بين أقسام الإعلام والأندية الأدبية، وإنشاء جائزة لأفضل منجز إعلامي ثقافي، ولقد كانت توصيات الملتقى بحق في مستوى أهمية موضوعاته، وأهمية المشاركين فيه.

المدينة 1435/2/15هـ