عبدالعزيز خوجة حكاياتُ الأمس وإنسانيات التّعامل وشفافية الوجدان!!

•• قد يختلف النّاس حول شخصيّة معيّنة من حيثُ إنجازُها وحضورُها، وقد يتفاوتون في تقييم توجّهات، ومناقب تلك الشّخصية، فالله بكمال صفاته وتفرّد وحدانيته جعل النّقص من صفات البشر، كما جعل الأفول والزّوال من سمات موجوداته، حتّى يكون هناك فرقٌ بين الصّانع والمصنوع، والعابد والمعبود، والواجد والموجود. ولعلّي اليوم، وأنا أدوّن هذه السّطور أعلم يقينًا أنّ المتلقّي سوف يختلف معي، ويتباين إزاء ما أكتب، وموطِّنًا النّفس حتّى لتخرّصات البعض وظنونهم، وإنّني في مرحلة من العمر قد أمسكت فيها اليراع للكتابة قبل حوالى نصف قرنٍ من الزّمن ممّا يتطلّب منّي وفاءً لهذه الكلمة أن أذكر شيئًا من سيرة القَوم الذين عرفتُ أو مازجت وخالطت تحت سماء البلد الطّيب، حيث لا تزال بقايا من بركات وأنوار الوحي، الذي تنزّل بين شِعَبه ونَقَاهُ وحجُونه ومَعَلاهُ.


•• وواحدٌ من أولئك القوم الذين اقتربت منهم ودادًا وإخاءً صادقين، هو الإنسان عبدالعزيز خوجة، كان الرّجل قادمًا للتوِّ من ديار الغرب بعد أنْ أكمل دراسته العليا، وكانت كلّية التربية أحوج ما تكون لخبراته العلميّة والإدارية، وأزعم أنّه مع زميله معالي الدكتور عبدالوهّاب أبوسليمان الذي تسلَّم منصب عمادة كلّية الشريعة، أعرق الكلّيات العلمية في بلادنا، لقد فطن الرّجلان بثاقب نظرهما لمخاطر الأدلجة، ونبّها إلى ما يمكن أن تخلّفه في أرض عرفت الوسطية والاعتدال وقيم التّسامح منذ أن خاطب الرّسول الخاتم صلّى الله عليه وسلّم قريشًا قائلاً: ماذا تظنون أنّي فاعل بكم، قالوا : أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فأجابهم النّبي قائلاً في بيانٍ وإعجاز تردّد صَدَى كلماته النّيرة الدّهور على تعاقبها: «اذهبوا فأنتم الطُّلقاء»، بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ويا شفيع الخلق في يوم الزّحام.


•• كان هذا الإنسان، أعني معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة، يقابل كلّ من يدخل مكتبه بابتسامة صادقة، أبعد ما تكون دخولاً في باب المجاملة أو التصنّع، ويقضي حاجة بعض كبار السّن الذين يبحثون عن مقاعد لأبنائهم في صالات الدّرس التي تستمدّ زخمها من تلك الدّروس التي كانت تُعْقُد في صَحْنِ المسجد وبين بئر زمزم وبابَيْ الباسطيّة والسّلام، وكان إذا ما حان اللّيل وتفرّق النّاس بعد أداء المكتوبة في شعاب مكّة المكرمة وبرحاتها الباذخة بقيم الشّهامة والنّبل والرّجولة؛ قصد -عزيزُنا- بكلّ نفس راضية حانوت والده في حي القرارة كما كان يفعل، كذلك من عرف برجل الجاه المبذول والنّفس الطيبة واليد الكريمة، أعني معالي الدكتور محمّد عبده يماني -رحمه الله-، فلقد كان هو الآخر مع نهاية كلّ أسبوع يؤازرُ والده في حانوته المُطلِّ على بركة ماجل وبستان الفارسي. وعزيزنا النّبيل الأديب محمّد عمر العامودي يعرف عن تعلّق صاحب هذه السّيرة بالشّعر والأدب أكثر ممّا أعرف، وفي ربوع المسفلة وفي مقهى العم صالح عبدالحي كان جيل الرّواد من أمثال محمّد سرور الصبّان، وشحاتة، والسّرحان، وعزيز ضياء، ومحمّد سعيد العامودي، وأحمد قنديل، ومحمّد حسين زيدان، ومحمّد عمر توفيق وسواهم -رحمهم الله- يتطارحون الشّعر، ويبدعون الكلم، ويتطلّعون لفجر صادق يبزغ مجسِّدًا أمانيهم وطموحاتهم، وهو ما عبّر عنه القنديلُ صَادِقًا في مَشْهدِ وداعِ شحاتة حيث يقول:
نقضي سوادَ الليل للصّبح نجتلي
أمانينا موصولة البُعد والقُرب
على الرّمل كم نُصْغِي لسقراط والأولى
أقاموا صروحَ الفكرِ بالشّرقِ والغرب
على الصّخر كم نبني من الشّعر جنّة
نُفتّتُ بَعْضَ الصّخر بالألسُن الذّرب
مع البحر كم نَمْشي مع الموج سَاكِنًا
وفي الصّدر موجٌ هادرُ النّبض والوثب

•• ممّا لا يختلف فيه الأقربون والأباعد والمحبّون والأصفياء وسواهم أن عبدالعزيز خوجة لا يُشعرك بأنّ هناك حاجزًا يقوم بينك وبينه، سواء كان سفيرًا أو إداريًا أو وزيرًا؛ بل هو يردّ عليك ومن دون حاجب عندما تطلب هاتفه وبكلِّ حميمية وصدق، ويستمع إليك ويعدكُ بأنْ يفعل ما يستطيع، وكما يقول المثل الدّارج:» لا يُلامُ المَرءُ بعد الاجتهاد».


•• وهذا التّعامل الإنساني لا يقتصر مع بني قومه؛ بل يمتدّ ليشمل آخرين في بلادنا العربية والإسلامية، وأزعم أنّني أعلم الكثير في هذا الباب، ولكن عزيزنا أبوعزّة يَكرهُ الضّجيجََ، ويريد لأعماله الطّيبة أن تكون مصونة برداء السّتر.


•• وأختم هذه المقالة التي أدوّنها متنفِّسًا من خلالها صدى الذّكريات وحكايات الأمس الجميل، وآملاً من المولى عزّ وجلّ رضاءً لا سخط بعده، وجميلاً لا نكرانَ معه، وإحسانًا لا يعقبه جحود، وكلمة طيبة تزرع الأمل في دروب الحياة التي أضحى بعضها وعرًا إذا ما سلكته الأقدام، وقد يكون داميًا ومؤلمًا وتضيق معه الصّدور التي ألفت المحبّة والتّسامح، أختمها بمشهد لم يكن فيه بيني وبين الإنسان الخوجة سوى الله شاهدًا وبصيرًا، فلقد قادنا الحديث يومًا عن رفيق دربه معالي الدكتور محمّد عبده يماني -أسكنه الله فسيح جناته-، فأخبرته أنّه بعد تعيينه وزيرًا لهذا المرفق الذي لا يقوى على تحمّل تبعاته ومسؤولياته إلا الأقوياءُ والصّابرُون، فإذا بأبي ياسر، وأزعم أنّني كنت من الدنوِّ منه بحيث أشعر أنّني في حلقة مشايخي من علماء البلد الحرام، إذا بأسارير وجهه -رحمه الله- تنبسط، وبكلمات تَمْتَحُ من وجْدَان وفَيْضِ الأبوّة الرّوحية الصّادقة وهو يقول: لقد أكرمنا الله «بأبي عزّة».


•• وكان صَمْتٌ أعقبته دُموعٌ تنهمر غزيرة من عين الرّجل الذي أزعم أنّني سمعته مرّة بعد وفاة رفيق دربه، وشقيق روحه يقول عنه: لقد أوحشتني يا دكتور عبده.


•• عزيزي «عبدالعزيز»، يكرّمك مَسَاءَ هذا اليوم الصّديق الأديبُ المفضال الأستاذ عبدالمقصود، وهو الفلاحيُّ الذي وَرِثَ عن أبيه حبَّ الأدب وإكرام أهله، فلقد شعر الأدباء بشيء من اليُتمِ بعد رحيل الإنسان الوجيه الأديب محمّد سرور، فكان أن ضمّد جراح أنفسهم عبدالمقصود.

المدينة 1435/2/13هـ