تراب مكة كمكة

ن أتناول في مقالي هذا موضوع قداسة وعظمة وحرمة مكة المكرمة، مهوى القلوب، وهوى الأبصار، فهذا أمر لا يكاد يخفى على أحد في هذه المعمورة، والآيات الشريفة، والأحاديث المنيفة واضحة وبينة، ولست في حاجة لكتابتها ونقلها، وكلها تدل على وجوب احترام مكة المكرمة، وتطهيرها من كل أذى، وحمايتها من كل معصية، ومن أي ظلم، ووجوب تسهيل أمر أهلها وزوارها، وإعانتهم، وكف الأذى عنهم.. مقالي هنا ليس عما سبق بالتفصيل، إلا من ناحية واحدة، وهي القيمة المعنوية العظمـى لأمر آخر في مكة العظيمـة، وأقصد بذلك (تراب مكة)..

نعم ترابها الذي نال قسطاً وافرًا من تقدير الكبار من أهل العلم ـ رحمهم الله ـ. وبنظرة فاحصة في تراثنا الفقهي سنجد نصوصًا كثيرة وعجيبة تفيد اهتمام العلمـاء الأجلاء بحكم إخراج تراب الحرم وحجارته من مكة المكرمة إلى الحل ـ خارج حدود الحرم ـ ..

يقول الإمام أبو يوسف الشيرازي في كتابه (المهذب) أحد أشهر كتب السادة الشافعية: "لا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره؛ لما روي عن ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنهما كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل، أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم، وروى عبدالأعلى بن عبدالله قال: قدمت مع أمي أو قال جدتي مكة المكرمة فأتينا صفية بنت شيبة بن عثمان بن طلحة ـ رضي الله عنهم ـ ، فأرسلت إلى الصفا فقطعت حجرا من جنابه فخرجنا به، فنزلنا أول منزل، فذكر من علتهم جميعا ـ أي مرضهم ـ ، فقالت أمي: ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم، قال: وكنت أنا أمثلهم، فقالت لي: انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها، وقل لها: إن الله ـ عز وجل ـ وضع في حرمه شيئا لا ينبغي أن يخرج منه، قال عبدالأعلى: فما هو إلا أن نحينا ذلك؛ فكأنما أُنشطنا من عقال ـ أي شافاهم الله ـ"، ونقل الإمام النووي في شرحه للعبارات السابقة في كتابه (المجموع) عن الإمام الشافعي ـ رحمهم الله ـ قوله: "ذكر الشافعي هذه المسـألة ـ تراب مكة ـ في الأمالي القديمة، وعللها بأن الحرم بقعة تخالف سائر البقاع، ولها شرف على غيرها بدليل اختصاص النسكين بها، ووجوب الجزاء في صيدها فلا تفوت هذه الحرمة لترابها".. ونقل الإمام أبو السعادات منصور البهوتي في كتابه (دقائق أولي النهى) الذي شرح فيه كتاب الإمام الفتوحي (منتهى الإرادات) عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمهم الله ـ قوله: "لا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل من الحل كذلك، قال ابن عمر وابن عباس: ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل، والخروج أشد كراهة" ـ وللإنصـاف أذكر أن بعضا من السادة الأحناف وغيرهم أباحوا النقل، لكن الأكثرية كما ذكرت بين التحريم والكراهة ـ.


وأختم ـ بالمناسبة ـ بأمر آخر يتعلق بالنقل من مكة، وهو (إخراج ماء زمزم)، وهذه المسألة قد نص العلماء على جوازها، ودليلهم حديث سيدنا جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: "أرسلني صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة قبل أن يفتح مكة إلى سهيل بن عمرو أن اهد لنا من ماء زمزم..".. حقًا عظمة مكة لا تنتهي.

الوطن 1435/2/5هـ