آثارنا الإسلامية الخالدة.. دار السيدة خديجة أنموذج
ما أحسن ما جاء في كلمة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان رئيس هيئة السياحة والآثار، في افتتاح ندوة «آثار المدينة المنورة وحضارتها وتراثها عبر العصور»، التي بدأت أعمالها في المدينة المنورة في 16/1/1435هـ.
إذ أكد سموه «أننا لا نقف على آبار نفط فقط بل نستند إلى أكتاف تاريخ وتراث عظيم، ومهمتنا أن نحافظ على تراثنا لكي لا تندثر هذه المواقع الأثرية».
ومن يشابه أبَاهُ فما ظلم، كما قالت العرب، إذ إن هذه الكلمة الموفقة امتداد لما صرح به والده صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء من «أن الاهتمام بالتأريخ جزء من ذاكرة الوطن وتراثه» ومن هذا المنطلق لقادة هذا البلد المسلم، يصبح واجباً علينا أن نحافظ على آثارنا من الزوال والاندثار.
وقد أحسنت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بإصدار سِفر موسوعي كبير بعنوان: «دار السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في مكة المكرمة: دراسة تأريخية للدار وموقعها وعمارتها» لمؤلفه معالي الشيخ أحمد زكي يماني المفكر الإسلامي والمؤرخ الكبير، ويقع هذا السِفر في مائة واثنتين وسبعين صفحة من الورق الصقيل ويعج بالصور والخرائط والرسوم البيانية الدقيقة المصحوبة بتوثيق صارم للغاية لنقول عن المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين من المؤرخين والرحالات عبر العصور، إضافة إلى مشاهدات المؤلف نفسه عبر عمره المديد بإذن الله وسكناه في جوار المسجد الحرام لعشرات السنين كأقرانه من أبناء مكة المكرمة البررة، وكل ذلك لا يتأتى إلا لرجل مثل أحمد زكي يماني بشغفه المعروف بالبحث الدؤوب في تأريخ الحرمين الشريفين حتى أسس داراً مختصة بالتراث الإسلامي: هي مؤسسة الفرقان، ودأب على إصدار موسوعة ضخمة عن مكة المكرمة والمدينة المنورة صدر منها عدة أجزاء ويجري العمل على قدم وساق لإصدار بقية أجزائها.
وقد دفع هذا الشغف هذا المفكر الإسلامي الكبير إلى الغوص في مصادر المعرفة العربية وغير العربية ليضع يده على كثير من الحقائق حول المدينتين المقدستين، التي قد تغيب عن سواه من المؤلفين في الوقت الحاضر.
وكما قلت فإن الكتاب الذي بين أيدينا عن دار السيدة خديجة رضي الله عنها يؤرخ لها بدقة، ويتحدث عن صاحبتها بتوسع، ويحدد موقعها ومواقع الدور التي كانت تحيط بها بتفصيل شديد، ويتتبع عمارتها عبر التأريخ مستنداً إلى أصح الروايات التأريخية، ويستعرض ما جاء عنها في روايات الرجالات وكتبهم عبر العصور، إلى أن يصل إلى محطة عصرية فيتحدث عن الدار في حفريات سنة 1410هـ - 1989م.
ولعل أهمية هذه الدار تتجلى في أولى كلمات المؤلف عنها في مقدمته حين قال: إنها الدار التي تزوج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وتردد عليها جبريل عليه السلام حاملاً رسالات ربه بالقرآن الكريم وفيها نزلت آيات القرآن الكريم ومنها سورة المدثر، وتكرر نزول الوحي فيها، وفيها شق قلبه صلى الله عليه وسلم، وفي الدار أسلمت السيدة خديجة وعليّ وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، ومنها انتقلت رحلة الإسراء والمعراج وفي حجراتها أنجبت السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم من البنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ومن البنين: القاسم وعبدالله، رضي الله عنهم جميعاً. وفي هذه الدار عاش النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين عاماً من حياته، إلى آخر جوانب أهميتها التي لا تعد ولا تحصى التي ذكرها المؤلف في ثنايا الكتاب.
ومن نتائج هذه الدراسة المبهرة الكشف عن أن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت لها داران، حدد المؤلف بدقة موقعيهما، وذكر أن الدراسة تختص بالدار الثانية التي تقع شمال شرق المسجد الحرام، وهي التي كانت مسكن النبي صلى الله عليه وسلم وأبنائه جميعاً. كما حددت الدراسة المتغيرات التي طرأت على الدار خلال الحقب التأريخية المختلفة، وكذلك بعض الاختلافات في أسماء بعض الحجرات، كما أظهرت الدراسة أن هذه الدار كانت موقوفة منذ عهد الخليفة معاوية رضي الله عنه، وظلت على ذلك حتى عهد الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، كما أظهرت أن بعض المواضع الملحقة بها كانت أوقافاً لمصالحها. وأورد المؤلف نقولاً عن بعض العلماء لم ينكروا فيها زيارة الأماكن الأثرية في مكة المكرمة، كما صحح بعض المغالطات التأريخية المتصلة بالدار التي وردت في بعض كتب الرحالة.
وانفردت الدراسة بتحليل وصف المؤرخ الفاسي للدار، ونتائج أخرى كثيرة، وما أحوجنا إلى دراسات موسوعية مماثلة أخرى لآثارنا الإسلامية التي تزخر بها هذه البلاد، ونسأل الله تعالى أن يوفق معالي الشيخ أحمد زكي يماني وسواه من العلماء لإنجاز المزيد منها، وأدعو المختصين والمهتمين عموماً للاطلاع على هذا الكتاب الرائع عن دار السيدة خديجة.
المدينة 1435/1/24هـ
التعريف بالكتاب على موقع قبلة الدنيا