أهل مكة أدرى بشعابها

من أهم ما يؤخذ على بعض الخطط الإستراتيجية هذه الأيام، أن بعض من يضعونها يكونون من خارج تخصص الجهة التي وضعت لها الخطة، وقد يكونون من خارج حقلها تماما أو لا يعلمون شيئًا عن هذا الحقل، حتى أن بعضهم قد يكونون غرباء عنه بكل ما تعنيه كلمة الغربة. ويذهب بعض القائمين على هذا النوع من التخطيط إلى أن الخبير أو المفكر الإستراتيجي يستطيع بكل اقتدار أن يضع خططًا محكمة لأي جهة استنادًا إلى قواعد إستراتيجية ثابتة، ويرى من لا يتفقون مع هذا التوجه أن بعض الخطط الإستراتيجية أصبحت قوالب ثابتة تصبّ عليها الخطط المختلفة، مهما اختلفت وتباينت الجهات التي وضعت لها الخطط ما بين جهات تعليمية أو خدمية أو صناعية أو صحية أو إعلامية وسمّها ما شئت.


حتى أنك لو قرأت بتمعن بعض الخطط الإستراتيجية لجهات ذوات طبيعة مختلفة تمامًا ستجد تشابهًا وربما تطابقًا ملموسًا بين الخطط.


وقد يكون السبب الرئيس وراء ذلك كما تطرحه هذه المقالة هو "إيكال الأمر إلى غير أهله" في بعض الأحيان، وتكليف بعض الخبراء الإستراتيجيين كما يسمون بوضع خطة ما، بعد عقد عدة ورش عمل وعصف ذهني طويل قد يشارك فيه أو لا يشارك أصحاب الشأن وأصحاب الخبرات الطويلة في طبيعة عمل الجهة التي توضع لها الخطة ممن يعلمون أدق التفاصيل عن أسرارها وخباياها وتأريخها ورجالها.


والأدهى والأمر أن يؤتى بخبراء أجانب ليسوا من مواطني البلاد أو المقيمين فيها ليفتوا بغير علم ويخططوا لجهات أو لخدمات لا يعلمون عنها شيئًا مسبقًا أو تكون غريبة عن ثقافاتهم وبلادهم وأديانهم.


فأنّى لهم أن يحددوا المشكلات الحقيقية ومن ثم أن يضعوا حلولاً ناجعة لها؟ ويحدث كثيرًا أن يضطر هؤلاء الخبراء كما يسمون إلى الاستعانة بالخبراء المحليين من ذوي الخبرة والاختصاص والتجربة في معظم ما يقدمونه من رؤى وما يضعونه من خطط، ويدفعون لهم عشر معشار ما يتقاضونه من أموال طائلة، بينما كان يمكن التعاقد مع الخبراء المحليين منذ بداية الأمر وتوفير المال والجهد والوقت. هذا ما يحدث في وضع بعض الخطط الإستراتيجية دون تعميم.


ومن أهم القطاعات التي لا يمكن أن يخطط لها إستراتيجيا في بلادنا إلا من خلال الخبراء السعوديين: قطاع الحج، الذي تتداخل فيه عوامل لا تُحصى ولا تعد: خدمية وأمنية ومرورية وصحية ودينية وإعلامية وسمها ما شئت، حتى أن جميع أجهزة الدولة تكون في حالة استنفار قصوى خلال ذلك الموسم العظيم بكل جهاتها دون استثناء. ولا يجيد التعامل مع قضايا الحج وتعقيداته، إلا أبناء هذه البلاد من أصحاب الخبرة الممتدة عبر عشرات السنين وقد تكون مئاتها.


وفي الماضي كان التخطيط لكل شؤون الحج يعتمد على الخبرة فقط، أما اليوم فيقوم هذا التخطيط على الخبرة والتعليم معًا، فقد أصبح الكثير من أبناء وبنات العاملين في خدمة الحجيج في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وسواها يحملون أعلى المؤهلات العلمية العالمية في الهندسة والتخطيط والعمران والصحة والمعلوماتية والتشريع إلى آخر قائمة الميادين المتعلقة بشعيرة الحج دون أي نقصان.


كما قدمت الجامعات السعودية وخصوصًا جامعات المنطقة الغربية خلال عقود آلاف الأبحاث المتعلقة بالحج وشؤونه إضافة إلى وجود معهد مختص بالحج هو معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثين عامًا في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة ثم انتقل إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وقدّم مئات الدراسات التي أسهم الكثير منها في تيسير أداء النسك وزيادة التنظيم وإحكامه في الحج.


وعلى مدى عقود مضت كان وزراء الحج، ومن قبلهم وزراء الحج والأوقاف يرجعون إلى أصحاب الخبرة والمعرفة في كل شؤون الحج، ومما رأيته بعيني وسمعته بأذني استشارات عدة لمعالي وزير الحج والأوقاف الأسبق الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع رحمه الله طرحها على الشيخ محمود أبوزيد رحمه الله مؤسس مكتب الوكلاء الموحد الذي زادت خبرته في الحج عن خمسين عامًا، وفي كل مرة كان العم محمود رحمه الله يبيّن للوزير الحل المناسب والسريع.
وكذلك كان معالي وزير الحج الأسبق الأخ الكريم والصديق الحميم الدكتور محمود سفر يعود إلى الشيخ محمود أبوزيد في كثير من شؤون الحج.


أقول وبالله التوفيق: إن أهل مكة أدرى بشعابها، ولا ينصح مطلقًا بأن نستعين بخبراء غير سعوديين في التخطيط لأي شأن من شؤون الحج، خصوصًا وأن جامعاتنا السعودية تغص بالخبراء والعلماء والمختصين الذين يجمعون بين التأهيل العلمي العالي جدًّا من أرقى الجامعات العالمية وبين خبرتهم وخبرة آبائهم وأجدادهم من مطوفين وأدلاء ووكلاء وزمازمة وسواهم ممن يعلمون كل شاردة وواردة عن الحج وشؤونه.

الميدنة 1434/12/4هـ