الرقام حين يتذكر

لا يمكن لمدينة أن تلج بوابة التاريخ لمجرد أنها تحوي بيوتا قديمة وأزقة عتيقة وساحات عريقة، ذلك أن كل ذلك لا قيمة له ما لم يكن مشفوعا بذاكرة تاريخية تمنح تلك المواقع حياة وتضفي عليها معنى، فحياة البيوت القديمة إنما تكون بمعرفة من سكنوها، وحيوية الساحات العريقة إنما تتحقق بما شهدته من أحداث وقيمة الأزقة العتيقة إنما تستمد بمن عبروها.


والمدن لا تموت بتساقط أبنيتها أو تعرضها للحرائق المنظمة، كما هو الحال في جدة، وإنما تموت المدن بموت سيرة الناس الذين كانوا يقطنونها، تصبح أرضا خواء وصحراء تعوي فيها الريح يوم أن تموت ذاكرتها، تتحول مبانيها إلى بيوت من الكرتون كأنما بنيت لتمثيل فيلم وتركت بعد ذلك، تلك هي حال المدن التي لا ذاكرة لها.


وحين كانت جدة تتعرض بيتا إثر بيت للهدم والحرق كان تاريخها يتعرض لما هو أسوأ من ذلك، كان تاريخها يتعرض للمحو والاندثار، كانت تذوي كلما ودع واحد من كبار أهلها الحياة حتى أوشك على ألا يبقى منها غير بعض ما حفظته كتب التاريخ من أخبار وروايات عتيقة لا تكاد تنتمي لجدة المكان الذي يمكن لمن يعبر أزقتها ويحدق في مبانيها أن يراه، وأوشك كثير ممن كتبوا عنها ألا تخرج كتاباتهم عن أن تكون حديثا مكرورا مستعادا لا يضيف شيئا ولا يحفظ من تاريخ جدة الآيل للنسيان شيئا.


في هذا السياق يمكن لنا أن نعتد بكتاب محمد درويش الرقام «جدة داخل السور» والذي تولى تحريره عبدالله فراج الشريف باعتباره محاولة مخلصة لإنقاذ ذاكرة جدة من النسيان وترسيخ تاريخ جدة باعتباره تاريخا للإنسان الذي يمنح مبانيها وشوارعها وساحاتها معنى جديرا بالحفظ والرعاية والاهتمام.


كتاب الرقام «جدة داخل السور» سيرة للناس في حياتهم اليومية، ترميم لذاكرة جدة، إعادة بناء لتاريخها الحديث، عمل لم يكن ينهض به رجل غير الرقام الرجل الذي وهبه الله ذاكرة تمشي على قدمين وقلبا محبا لجدة وتاريخها.

عكاظ 1434/11/3هـ