«الشيخ بن دهيش.. مواقف ورجولة»

يُعدُّ الشيخ عبدالملك بن دهيش أحد رجال الدولة الفاعلين، كان محل ثقة ولاة الأمر بعد أن عرفوا فيه حبّه للوسطية والاعتدال، واحترام الآخرين. كانت له مواقف مشرّفة في مجال القضاء الذي تدرج فيه حتى أصبح رئيسًا للمحاكم في مكة المكرمة. ورث عن أبيه الشيخ عبدالله حبه للناس، وشغفه في تقديم العون والمساعدة لهم، وقد كان والده قاضيًا في مكة يُشار إليه بالبنان فضلاً عن فهمه العميق في علم الحديث. رحل عبدالملك بن دهيش من دنياه تاركًا أفضل الأثر في نفوس وقلوب الناس، أحدث تغييرًا ملموسًا في إزالة التشدد الذي كان سببًا في العديد من القضايا بين الطائفين والرجال العاملين في الحرم؛ المنتسبين لإدارة شؤون الحرمين في أعقاب توليه للرئاسة العامة لإدارة الحرمين بالنيابة، إلى أن اختير رئيسًا عامًّا لتعليم البنات في مهمة صعبة بعد أن غاب منهج الاعتدال والوسطية، وتغلغل التشدد والغلو والتطرف في الرئاسة، واستطاع التعامل مع ذلك الأمر بكل حزم وعزم. منذ عام 1416هـ وحتى قبل وفاته بأيام تفرغ للبحث والتأليف وتحقيق بعض أمهات الكتب، وكان ينشرها على نفقته تعزيزًا لإحياء التراث وخوفه عليه، والحديث عن هذا الإنجاز يتطلب حيزًا كبيرًا له، جعل الله ذلك في موازين حسناته. إذا كان البعض يشيد بإنجازاته في الرئاسة العامة للحرمين، أو الرئاسة العامة لتعليم البنات ودوره الإيجابي في تسريع عجلة التطوير وتحسين الأداء، فإن المحطة الكبرى التي يلزم التوقف عندها بالفعل هي مرحلة القضاء باعتباره المفصل في حياة الأمم والشعوب، فهمه العميق للهجة المحلية (وهو سلاح مهم للقاضي) فضلاً عن فراسته المشهودة له.


لديّ بعض الذكريات معه -يرحمه الله- أسوق باختصار شديد بعضًا منها:
• طلب مني الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي -يرحمه الله- الذي كان ناظرًا لأحد الأوقاف في مكة أن أكون وكيلاً عنه، حيث يقيم في الرياض، ويتعذر عليه متابعة أوراق التعويض عن الوقف الذي أزيل آنذاك، فاعتذرتُ لأن هذا الأمر يتطلب الذهاب إلى المحكمة التي حذّرنا الوالد من الذهاب إليها مهما كان السبب، فذهبتُ إلى الشيخ أطلب منه إنهاء بعض الإجراءات ورقيًّا في داره دون أن يلزمني بالذهاب إلى المحكمة، فقال: أنا أعرف أن بعضًا من الأهالي هنا يعتقدون أن الذهاب إلى المحكمة ينقص من قيمته، ويمس كرامته، وأنا أختلف مع الوالد في هذا الرأي، أنا أنتظرك يوم الاثنين بعد صلاة الظهر، وتجرّأت ودخلت المحكمة، وأنا أستاذ في الجامعة، داعيًا الله أن لا أقابل أحدًا يعرفني، وأحاطني الشيخ بكريم عنايته، وخفّف عني الشعور بالخجل، وأنهى جزءًا من المطلوب، ودعاني للعودة بعد 3 أيام، وعندما لمس استيائي من قضية العودة إلى المحكمة قال لي: يا دكتور هل تريد الحصول على المثوبة من الله؟ قلت: نعم، فقال: إذًا عُدْ لإنهاء ما بدأته. وظل يقصُّ على زوّاره قصة خجلي من دخول المحكمة، وكيف تم كسر الحاجز النفسي، وعندما أخبرت الوالد -يرحمه الله- بما حصل، حوقل ثم قال:
إذا لم تكن إلاّ الأسنةُ مركبًا
فيما حيلةُ المضطر إلاّ ركوبها
وللحديث بقية...

المدينة 1434/10/27هـ