الحرم المكي الشريف في رمضان
الحرم المكي الشريف يختلف عن كل مباني العالم من ناحية ضخامته واتساعه والأعداد الهائلة من البشر التي تمر به لا تهدأ حركتها ليل نهار أو تنقطع لأي لحظة. يبدو لي هذا المكان الطاهر أشبه بكائن حي عملاق تعمل خلاياه باستمرار ولا تتوقف مهما كان السبب.
وعندما ينمو أي كائن حي مكون من بلايين الخلايا فإن نموه يتطلب الكثير من عمليات الهدم والبناء التي تسير جنبا إلى جنب في كل خلية من خلايا الجسم مع تنسيق بين الخلايا المختلفة في تناغم متقن أبدعه الخالق عز وجل ولا نزال نجهل كثيرا من أسراره وخفاياه إن لم يكن جلها ولكنه يتميز بالسرعة والكفاءة وقلة الهدر إلى أقصى حد ممكن.
بنفس الشبه تتزامن عمليات الهدم والبناء هذه الأيام في التوسعة الهائلة التي يشهدها الحرم المكي الشريف. لابد أن تستمر الصلوات الخمس والطواف والسعي على مدار الساعة لملايين المصلين وزوار بيت الله من معتمرين، وقريبا من حجاج، مع كل أعمال الهدم والبناء. لابد أن تراعى الاحتياجات الخاصة للمسنين وغيرهم من المضطرين للتنقل على الكراسي المتحركة. أن يتم تنظيم عمليات الهدم والبناء بنفس الدقة والترتيب كما يتم في الكائن الحي فذاك لاشك فوق طاقة البشر وإمكاناتهم.
ولكن ربما نتعلم الكثير بالنظر إلى عمليات النمو في المخلوقات الحية مما أبدعه الخالق القادر على كل شيء وخاصة في التقليل من الهدر. على كل حال لا يملك الزائر للحرم الشريف إلا أن ينظر بإكبار وامتنان إلى الجهود الإنشائية الهائلة التي تسير بسرعة فائقة متخطية كل الصعاب وأن يدعو لمن أمر بهذه التوسعة المباركة ولكل القائمين على هذا الجهد الجبار بالمثوبة والأجر والتوفيق.موقف السيارات الجديد الذي أنشئ مؤخرا على طريق جدة السريع هو إضافة جديدة موفقة للجهود المبذولة لتخفيف الازدحام في مكة المكرمة مما كنا نتوقعه بل ندعو إليه ونأمله منذ فترة طويلة، وها هو بحمد الله قد تحقق.
من المستحيل أن تتسع شوارع مكة المكرمة ومواقفها للأعداد المتزايدة من السيارات ولا بد من حلول جذرية دائمة، منها المواقف الضخمة على مشارف مكة خارج حدود العمران فيها. المواقف الأقرب إلى الحرم مثل موقفي الرصيفة وكدي تجاوزت طاقتها الاستيعابية بالأعداد الهائلة من السيارات في هذا الموسم وبالأحرى في المواسم القادمة مما يجعل من المحتم إنشاء مواقف جديدة أبعد على الطرق المؤدية إلى مكة مثل موقف طريق جدة السريع. قد يستصعب البعض ركوب الحافلات والمشي بعد ذلك لمسافة تقارب نصف الكيلومتر للوصول إلى الحرم ولكن الواقع أن هذا التنظيم أفضل بكثير من الوقوع في معمعة زحام السيارات الخانق. هناك عربات كهربائية لتوصيل غير القادرين على المشي من موقف الحافلة إلى الحرم. نتطلع إلى اليوم الذي نستقل فيه القطار والمترو إلى الحرم الشريف بكل سهولة ويسر. من المهم ألا تكون مستعجلا في أداء العمرة بل تحسب لها الوقت الكافي فذلك خير ضمان لزيادة المتعة الروحانية وتجنب التعب والإرهاق. يشعر القادم إلى الحرم بالترحيب قبيل أذان المغرب عندما يستقبله العديد من المتطوعين بالتمور وأكواب الماء البارد وقوارير اللبن أو غير ذلك من الأطعمة والمشروبات.
تستعجب من الأعداد الهائلة من البشر الذين يستوعبهم المسجد الحرام. تتمنى أن توجد طريقة لمعرفة الأعداد التقديرية في الحرم في كافة أوقات الذروة لمساعدة المعتمرين مثلا على تجنب الازدحام.بعض الناس لا يكترث بالزحام رغم خطورته. سمعت أحدهم يتحدث بالجوال نافيا وجود الازدحام الكثيف وتعجبت أي مستوى من الازدحام يعتبره صاحبنا كثيفا. البيانات الرسمية والواقع المحسوس يؤكدان ارتفاع أعداد زوار المسجد الحرام بصورة ملموسة.
هناك طاقة استيعابية لكل مكان مهما كبر. ربما يحثنا ذلك على الاكتفاء بعمرة واحدة مع تجنب ذروة الازدحام خاصة في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان وإتاحة الفرصة للآخرين. قوات الطوارئ المنتشرة في أرجاء الحرم تقوم بدورها بكفاءة في تنظيم انسيابية الحركة وإسعاف المصابين وحفظ الأمن وإرشاد الزوار والضائعين. وتزداد أهميتهم مع ازدياد الازدحام في المطاف أو المسعى فيصبحون صمام الأمان لمنع حدوث تدافع خطير لا قدر الله. انظر إلى الجموع القادمة من كل حدب وصوب وهم يختلطون في وئام ثم يتراصون جنبا إلى جنب وقلوبهم وأنظارهم متجهة إلى نفس القبلة.
يغمرني الأمل فأرفع دعائي إلى المولى الكريم أن يزيل ما بين شعوب المسلمين من خلاف وما بين أبناء الشعب الواحد من قتال وفتنة وتناحر. أدعو لإخواننا المقاتلين والمشردين في سوريا بالنصر وأن يعيد عليهم رمضان وقد رجعوا إلى ديارهم وباتوا في سكينة وأمان.
عكاظ 1434/9/16هـ