دمعة حزن على رجل خدم ضيوف الرحمن

توفي إلى رحمة الله في أول أيام هذا الشهر الفضيل العم/ حميد بن حمد المجنوني، بعد أن تجاوز المئة عام من عمره وقد أمضى جلّ حياته في خدمة حجاج بيت الله الحرام وزائري مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ كان "جمّالا" يقود العشرات من الإبل والنياق ويأتي بها إلى دور المطوفين بمكة المكرمة وذلك قبل أن يكون هناك طرق معبدة تربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وقبل أن تصل إلى المملكة سيارات النقل كما كان أيضاً يشارك مع أعداد كبيرة من الجمّالة الذين أكرمهم الله تعالى بالمشاركة في خدمات نقل الحجيج من بيوتهم في مكة المكرمة إلى المشاعر المقدسة في قوافل عديدة تخرج بالحجيج من مختلف أحياء مكة المكرمة وتسير بهم إلى المشاعر المقدسة (منى وعرفات) وتسمع ضجيج الحجيج وهم في هوادجهم وعلى الركائب يقولون لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، في مواكب جميلة وفي أجواء روحانية يشعر فيها وفود الرحمن بأنهم في غاية السعادة وهم متجهون إلى عرفات ومن فضل الله على عباده أن قيّض أمثال العم/ حميد المجنوني، في خدمة قافلته التي تحمل وفود الرحمن.


وقد حكى لنا -رحمه الله تعالى- خلاصة تجربته العميقة المباركة في عمليات نقل وفود الرحمن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في رحلة كانت تستغرق قرابة (12) يوماً وكانت قافلته من الإبل تضم (11) ناقة وجملا واحدا يركب على كل واحد منها اثنان من وفود الرحمن، والجمل الحادي عشر للجمّال وأحياناً ينزل عنه ليسير على أقدامه.


وقال رحمه الله تعالى: إن مركوبه للاحتياط في حالة حصول عائق لأي من تلك الركائب فيستخدم بديلاً عن الجمل أو الناقة المكسورة، كما ذكر لنا يرحمه الله أنه في أواخر الخمسينيات الهجرية وبعد أداء الحجاج للمناسك جاء إلى أحد مطوفي الحجاج المصريين وتعاقد معه على نقل عشرين حاجاً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وأنه أثناء سيره بالحجيج بين رابغ ومستورة حصل أن انكسر الجمل الذي كان في المقدمة فلم يكن هناك بدّ من أن يعقره قال: يرحمه الله حزنت قافلة الحجيج معه على ما أصاب جمله الذي كان في مقدمة القافلة ،أما هو العم حميد فقال: إن الأمر عادي، هذا قدر الله تعالى لكل مخلوق نهاية والعجيب في هذه السالفة أنه بعد أن نحر ذلك الجمل قال رحمه الله: فإذا به يأتي عدد من الحجاج الأفارقة من بلاد التكرون يزيد عددهم على أربعين من رجل وامرأة كانوا يسيرون على الأقدام إلى المدينة المنورة فوزّع عليهم ما قسم الله لهم من لحم الجمل الذي نحره وكانوا جياعًا من أثر السفر ومشقته فسبحان المتكفل بأرزاق العباد الذي يقول في كتابه العزيز (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها).. آية (5) سورة هود.
رحم الله العم حميد المجنوني الذي كان أنموذجاً في مكارم الأخلاق والرفق بضيوف الرحمن ونقل الحجاج على الدواب.
والحديث عن نقل الحجيج على الركائب ذو شجون وكم كتب فيه المؤرخون والأدباء والشعراء عن مشاعر الإبل وهي تقلّ وفود الرحمن إلى المشاعر المقدسة والمسجد الحرام ومسجد حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم وممن نظم في هذا الباب الإمام ابن الديبع الشيباني في كتاب حدائق الأنوار حيث قال:
صلاة الله ما لاحت كواكب
على أحمد خير من ركب النجائب
حدا حادي السرى باسم الحبائب
فهزّ السكر أعطاف الركائب
ألم ترها وقد مدت خطاها
وسالت من مدامعها سحائب
ومالت للحمى طرباً وحنت
إلى تلك المعالم والملاعب
فدع جذب الزمام ولا تسقها
فقائد شوقها للحي جاذب
هذا وقد طلبت من معالي الدكتور/ فهد السماري- أمين عام دارة الملك عبدالعزيز قبل نحو عامين بعث فريق من المختصين في الدارة لمقابلة أمثال هؤلاء الرجال وتوثيق ما بذاكرتهم من المعلومات التاريخية الهامة فأجاب مشكوراً وقامت الدارة بمقابلته رحمه الله تعالى نحو ثلاث ساعات وسجلت خلاصة تجربته في نقل ضيوف الرحمن بين الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة ليعلم الجميع كيف أنّ الله تعالى يتابع نعمه على خلقه بأن سخّر لهم وسائل النقل الحديثة والمكيفة لراحة الحجاج والعمار والزوار فاللهم زد بيتك تشريفاً وتعظيماً وزد يا رب في تكريم من كرّمه وتعظيم من عظّمه من حج إليه واعتمر ورحم الله العم حميد المجنوني وأسكنه فسيح جناته وبارك في عقبه مسعود وإخوته وجعلهم الله خير خلف لخير سلف.
والحمد لله رب العالمين.

المدينة 1434/9/9هـ