رحلة إلى الماضي (2)
يواصل إبراهيم المازني في كتابه (رحلة الحجاز) الحديث عن مشاهداته في الحجاز. فيصف طرقات جدة إثر سقوط المطر ويرسم لها صورة ساخرة لا تختلف كثيرا عما نراها عليه في يومنا هذا، يقول: «وركبنا السيارات الخاصة التي أفردت لنا وذهبنا نخوض بها شوارع جدة وأقول نخوض وأنا أعني ما أقول، فقد خيل إلي أني في البندقية وأننا أحوج إلى القوارب والزوارق أو الجوندولا منا إلى السيارات».
وحين يتحدث عن مجتمع جدة يصف انتشار تدخين النرجيلة بين السكان وتفننهم في أشكال النراجيل وزخرفتها فيقول: «وكنا كلما دخلنا في بيت يجيئوننا بعدد من هذه النراجيل على أشكال شتى وحجوم مختلفة وألوان عدة فمنها ما هو من الفضة أو المعدن المنقوش أو المطلي بالذهب ومنها القصير والطويل والذي فيه صنعة والساذج الغفل والذي خرطومه من المخمل الأرجواني أو الأخضر إلى آخر ذلك».
ويبدو أن جدة منذ القديم وهي (غير)، فالكاتب يتعجب من انتشار تدخين النارجيلة في جدة واختفائها في مكة فيقول: «ولم أفهم لماذا تكثر النراجيل في جدة ولا أثر لها في مكة!!»، وحين عجز عن الوصول إلى تفسير لذلك، ركن إلى القول بأن الحكومة تدلل أهل جدة، «في جدة يجتلي المرء مظاهر الترف والنعمة ويحس أن القوم دلال على الحكومة أو دالة إذا شئت، وأن الحكومة توليهم من الرعاية والمجاملة والتسامح ما ليس له مشبه».
ويصف بأسلوبه الطريف الساخر الموضع الذي يقال إن حواء مدفونة فيه فيقول عنه: «فضاء رحيب مسور سد بابه بالحديد وكان الناس يفدون إليه زائرين بل حاجين، (...) وقد هدمه السعوديون ولم يبقوا من قبابه شيئا، ومنعوا الناس أن يزوروه وحدثني بعض من شهدوه قبل تقويضه أن طول القبر أربعون قدما، وأنه كانت هناك عدة قباب صغيرة على رأسها وصدرها إلى آخر جسمها، وكان الاعتقاد السائد أن أمنا حواء بهذا الطول، ولهذا مدوا قبرها وذهبوا به طولا وعرضا، فإذا صح هذا، فقد كانت أمنا إذا مهولة، ولا عجب أن تلد كل هذه الخلائق وأن تكون أم هذه الأناسي كلها في الشرق والغرب، فليت من يدري كيف كان آدم؟ لا شك أنه كان أفحل وأهول، ومع طولهما وعرضهما خدعتهما الحية وأخرجتهما من الجنة، فليست العبرة إذن بالطول، وفي هذا عزاء لي عن قصر قامتي»!!
والمازني في رحلته هذه يبدو مأخوذا بما يراه من أمن عام في البلاد فيذكر كيف أن القوافل التجارية كانت ترتحل آمنة بلا حراسة، وقد رأى ذلك في الطريق إلى مكة فيقول: «الطريق إلى مكة طريقان واحد للسيارات (...) والآخر للجمال والمشاة (...) وهي (الجمال) تسير قوافل قوافل، وقد عددت خمسين جملا في قافلة كانت تحمل بضائع شتى في الصناديق والأكياس أو الغرائر وليس معها سوى طفل واحد هو كل حرس هذه القافلة المغرية»!!
هذا الكتاب يجمع التسلية والمعرفة التاريخية ومن خير ما يقدم لأبناء الجيل الجديد للقراءة خلال هذا الشهر المبارك ليتعلموا منه الكثير عن حال بلادهم قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.
عكاظ 1434/9/7هـ