رحلة إلى الماضي (1)

 

إبراهيم المازني أديب مصري من أدباء القرن العشرين، اشتهر بكتابة الأدب الساخر وخفة الظل وروح النكتة التي تسيطر على كتاباته في معظم المرات. وقع في يدي عن طريق الصدفة، كتاب له بعنوان «رحلة الحجاز» يصف فيه مشاهداته أثناء رحلته مع عدد من زملائه الكتاب والصحفيين إلى المملكة عام 1349هـ أي قبل 85 عاما تقريبا، ويفهم من ثنايا سطور الكتاب أن هذا الوفد كان مستضافا من الحكومة السعودية وربما كان ذلك لحضور مناسبة مبايعة الملك عبدالعزيز بعد فتح الحجاز. والكتاب صغير الحجم، وعدد صفحاته لا يزيد عن 166 صفحة، لكنه كتاب ممتع ليس لظرافة أسلوب كاتبه فحسب، وإنما أيضا لما فيه من وصف يشد الانتباه لما كانت عليه الحياة في مدن الحجاز آنذاك.

يبدأ الكتاب بوصف ميناء ينبع الذي رست فيه السفينة المقلة لهم من مصر إلى المملكة، ثم ينتقل إلى وصف المدينة نفسها فيصفها بأنها: «صغيرة فقيرة، وبها مساجد كثيرة أشهرها مساجد ابن عطاء والخضر والسنوسي، وليس فيها زرع ولا ضرع، وبها آلة لتصفية ماء البحر يسمونها الكنداسة، وهي لفظة محرفة من الكوندنسر». ويصف سوق ينبع فيقول عنها: «ضيقة مسقفة على جانبيها الدكاكين فيها صنوف شتى من العطارة والبقول والمنسوجات والخبز والأسماك والجراد».

وقد لفت انتباهه في السوق أن أهل الدكاكين يتركون دكاكينهم مفتوحة بلا حراسة ويذهبون لأداء الصلاة فيقول: «ولم يكن في الدكاكين أحد لأنه كان وقت الصلاة وكان الطريق غاصا بالأطفال يمشون وراءنا ويحفون بنا في خرق ممزقة ومراقع لا تكاد تستر شيئا، فتساءلت: ماذا يحمي هذه المتاجر أن يسرق منها هؤلاء الغلمان الفقراء؟ فقيل لي إنه لا خوف منهم لأنه ما من أحد يجرؤ أن يسرق شيئا!!»ويفسر المازني هذا الأمن الذي أثار إعجابه واستغرابه معا بما قاله له أحد مرافقيه بأنه نتيجة تطبيق ابن سعود لأمرين: أحدهما قطع يد السارق والآخر «التصبيحة»، وهي أن ابن سعود يعمد إلى إنذار القبائل التي تسطو على الناس وتنهبهم ويحذرها، فإن لم ترتدع واستمرت في بغيها جهز لها جيشا بغزوها صباحا على غرة فيقضي عليها.

وحين يصف أهل ينبع يقول عنهم: «والأهالي خليط من كل جنس وملة، وسحنهم معرض للأمم الشرقية فمن زنجي إلى جاوي، ومن عربي إلى مصري، ومن هندي إلى فارسي، ومن سوري إلى صومالي». وما يستحق ذكره هنا للمقارنة بين ماض وحاضر، ما نص عليه الكاتب من أن أهل البلد لديهم اكتفاء ذاتي فلا يستعينون بأجنبي لعمل أي شيء لهم، يقول: «وقد شعرنا أننا في بلاد مستقلة فلا أجنبي هناك ولا نفوذ ولا سلطان إلا لأبناء البلد وكل موظف حجازي حتى اللاسلكي عماله ومديره حجازيون».

والمازني حريص على التوقف عند كل ما يثير استغرابه سواء في سياسة الرعية أو في عادات الناس ونمط عيشهم أو غير ذلك فمثلا حين تطرق للحديث عن قائم مقام ينبع مصطفى الخطيب لم يفته أن يذكر أن الخطيب من أهل ينبع وأنه كان عاملا عليها في عهد الحسين ولما جاءت الحكومة السعودية أقرته في منصبه ولم تنحه عنه كما يحدث غالبا عند تغير القيادات، ويعلق على ذلك بقوله «ترفعا منها (الحكومة السعودية) عن حماقات العزل والتأمير»، وهي ملاحظة تبدي لنا المفارقة الكبيرة مع ما يجري حاليا في مصر بالذات !!غدا نلتقي إن شاء الله لنكمل فراءة الكتاب.

عكاظ 1434/9/6هـ