ما نتعلمه من صحبة الأخيار

لا أحد يشك في أن الأستاذ الكبير الرائد عبدالله أحمد عبدالجبار قامة فكرية وأدبية نقدية، بل لعله أول رائد حقيقي في العصر الحديث للنقد الأدبي في هذا الوطن، فقيمته الأدبية والنقدية لا أحد يختلف عليها، فكتاب «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية»، هو واسطة العقد بين مصادره، فقامة الرجل وقيمته عرفها القاصي والداني في الوطن وخارجه، وقد كرمته الدولة فمنحته الوسام من الدرجة الأولى في احتفال مهرجان الجنادرية الحادي والعشرين عام 1427هـ، وقد منحني الله عز وجل الفرصة أن أكون في صحبته زمنًا ليس بالقصير، واقتربت منه أكثر، وتعلمت من صحبته الكثير من القيم والمثل التي لا يأتي بمثلها إلا النبلاء الأخيار من أبناء هذا الوطن، الذين هم فيه نجوم مضيئة، والسعيد من اقترب من واحد منهم، يكتسب بعضًا من قيمه، وأول وأعظم هذه القيم العمل للوطن بإخلاص، لا ينتظر له جزاءً ولا شكورًا، يبذل أقصى الجهد في خدمته في المجال الذي تخصص فيه واكتسب الخبرة، وأستاذنا عالم كبير في اللغة وفقهها وفي الأدب وتاريخه وفروعه، وفي النقد وفي نظرياته القديمة والحديثة، وفي الفكر الذي غاص فيما تراكم منه عبر العصور، وعرف مدارسه وميادينه، مع ما تميز به من حرية حقيقية في الفكر والعمل، لم يحتمل في سبيل ذلك قيدًا، ولا يرتضي أبدًا أن يحدها شيء، سوى القيم التي آمن بها، والمثل التي سعى إلى تحقيقها، مع عزة نفس وإباء يدفعه باستمرار إلى مزيد من المعالي، ودون أن يقوده ذلك إلى غرور زائف، أو احتقار للأدنى، كان يكره الاستبداد من أي نوع، ويترفع عن ممارسته، كان على قلة ما بذات يده كريمًا سخيًّا، وكان على ضعف في بدنه قويًّا لا يهزم في مواقفه المبنية على حق وعدل، يترفع عن الدنايا، ويتمثل كل فضيلة في سلوكه، وكان له من المحبين العدد الكبير، الذين يتمنون لو قدموا له كل خدمة هو يحتاج إليها، لكنه دومًا لا تتوق نفسه الأبية إلا إلى احترامهم وإجلالهم له، قضى العمر كله ولا ثروة له إلا علمه وفكره النير، دخله كله ينفقه على شراء الكتب، حتى ملأت منزله في جميع حجراته وصالاته وممراته، كون له مكتبة في كل بلد حل فيه.


وكنت ضمن مجموعة صغيرة اقتصر عليها صلته بهم في أخريات أيام حياته، له مجلس معهم يتجدد كل أسبوع، مساء كل ثلاثاء أولاً، ثم مساء كل سبت، هم تلاميذ له يصغون إليه بإجلال، وهو ينعتهم تطييبًا لخواطرهم أصدقاءه، فلا يوجه لأحدهم حديثًا إلا وهو يقول: يا صديقي، كنت مع قريب له هو الأستاذ أحمد عبدالجبار، والدكتور أسامة الفلالي ابن صديقه الحميم الشاعر إبراهيم الفلالي، والسيد محمد العربي ابن الرائد السيد أحمد العربي المشارك لأستاذنا في التدريس في المعهدين (المعهد العلمي السعودي، ومدرسة تحضير البعثات)، والأستاذ أحمد شوقي آشي ابن الرائد الأستاذ عبدالوهاب آشي، وكنا جميعًا ما عدا الأستاذ أحمد شوقي جيرانا له في السكن في حي مشروع الأمير فواز، ثم الأستاذ محمد سعيد طيب الذي يثق به استاذنا الجليل، وكان وزيرنا السابق القامة والقيمة معالي الشيخ أحمد زكي يماني، من أقرب الناس إلى أستاذنا، ومن تلاميذه الأول، وكان أستاذنا عظيم الثقة به محبًّا له، وقد تم أوفى تكريم على يد معاليه للأستاذ الكبير، حيث عزم على جمع تراث أستاذه الأدبي والنقدي والفكري في مجموعة كاملة يطلع عليها الناس بعد أن غاب عنهم رائدنا زمنًا، وأشار إليه حبيبنا الأستاذ محمد سعيد طيب أن أقوم بهذا العمل، فسررت بذلك أيما سرور، ذلك أنه كان أمنية لنا نحن الذين أحاطوا بالأستاذ يأنسون به ويأنس بهم، أن يعاد طبع كتبه كلها لتطلع عليها الأجيال الشابة من أبناء هذا الوطن، وتوثق الصلة بين الأجيال، وقد أعانني الله على ذلك مع أخي محمد سعيد طيب فأنجزناه، فتوفرت مؤلفاته للقراء، وأنجز له موقع على شبكة الإنترنت عليه جميع مؤلفاته ليصل إليها الجميع، وكان أسعد يوم لنا ذاك اليوم الذي قدمنا فيه للأستاذ الكبير النسخة الأولى من هذه المجموعة برفقة معالي الشيخ أحمد زكي في منزله العامر بمشروع الأمير فواز، فكان يومًا مشهودًا سعد به كل محب للأستاذ، هذا الرجل القامة الذي أثر في حياتنا التأثير الكبير، ويكفينا من السعادة أن تم هذا العمل لنقدمه لأبناء الوطن، ليتعرفوا على رائد من رواد العمل الوطني الخالص، البعيد عن الأغراض أو الأمراض، رحم الله أستاذنا الجليل، فقد كان لنا ولجيل كامل الأستاذ المعلم والرجل الذي يحسن حتى إلى من أساء إليه، فما بالك بمن هو له محب يسعى ما استطاع أن يدخل السرور عليه، خاصة في مرحلة من عمره كان هو فيها في أمسّ الحاجة إلى ذلك، فجزى الله خيرًا معالي الشيخ أحمد زكي يماني، الذي هيأ لنا هذه الفرصة الغالية، لنخدم أستاذنا الجليل اعترافًا بفضله، وسنبقى دومًا أوفياء لأستاذنا عبدالله أحمد عبدالجبار -رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح الجنان- إنه سميع مجيب الدعوات.

المدينة 1434/6/19هـ