المعماريون في جدة القديمة !!

 

كتاب مغرٍ، يجذبك عنوانه لقراءته، وقديما قيل الكتاب يقرأ من عنوانه. إن كنت من الذين يحبون البحث في التاريخ الاجتماعي، فإنك واجد بغيتك في هذا الكتاب، فهو يضم تفصيلات كثيرة عن طبيعة الحياة في جدة قبل سبعين عاما أو أكثر، ومنها سيرة البنائين وأشكال المباني التي كانت سائدة في جدة وتلاشت آثارها في هذا العصر حتى لا تكاد ترى منها شيئا.

في داخل الكتاب تجد صور وأسماء بعض البنائين والمباني، ووصفا لأشكال البناء وأسماء أجزائه مثل الدهليز والروشان والخارجة والمبيت، وكذلك وصفا لأساليب البناء التي كانت متبعة والأدوات المستعملة في البناء كخشب الدوم، والنورة (الجير) وكانت تستخدم في اللياسة، والحجر المنقبي الذي يمثل الأساس في مواد البناء، وهو ــ كما يعرفه المؤلف ــ (حجر جيري مرجاني مستخرج من ساحل البحر)، وكان الاعتماد عليه كليا في البناء، ما جعل معلمي البناء يشعرون بالتهديد لمهنتهم عندما بنى بن لادن بيت زينل بالأسمنت عام 1348هـ، وكانت تلك بداية إدخال الأسمنت لأول مرة في عمليات تشييد المنازل، فاتفق البناؤون على مقاطعته والاستمرار في الاعتماد على الحجر المنقبي.

كان الأسمنت بالنسبة لهم مجهولا لا يعرفون كيفية التعامل معه، ولا يثقون بمتانته وقدرته على تحمل الطوابق المتعددة، وظلوا زمنا على مقاطعتهم للأسمنت إلى أن كثر استخدامه ساحبا البساط من الحجر المنقبي، فلم يجدوا بدا من الرضوخ لتجربته وتعلم التعامل معه. من الأشياء التي عرفتها من هذا الكتاب أن البيوت الكبيرة في جدة ذات الطوابق العالية كانت تبنى فيها السلالم بطريقة انسيابية ينخفض فيها الارتفاع بين الدرجات؛ حتى يمكن لكبار السن أو المعاقين الصعود إلى الأدوار العليا على ظهور الدواب. أما ما يتعلق بالبنائين أنفسهم، فالكتاب فيه الكثير عن سيرتهم والتقاليد التي كانت متبعة فيما بينهم والأعراف التي كانوا يتعاملون وفقها. ومن أجمل ما تعارفوا عليه تضامنهم المعنوي والاقتصادي ومساندتهم ماديا لبعضهم البعض، فمما يذكره المؤلف أن (المعلمين) متى اختلف أحدهم مع المالك وسجن بسبب الاختلاف يرفضون إكمال العمل الذي بدأه وسجن بسبب اختلافه مع صاحبه، فيضطر المالك إلى الذهاب إلى المعلم واسترضائه والتفاوض معه كي يخرج ويكمل العمل. كذلك اعتادوا فيما بينهم على إجبار الصنايعي على الولاء لمعلمه الذي دربه، فإذا جاء أحد من الصبيان غاضبا من معلمه يريد العمل عند معلم آخر لا يسمح له بالانتقال إلى غيره ردا لجميله في تدريبه، وهذه النقطة استوقفتني؛ لأنها تذكرنا بالشكوى التي نسمعها الآن من بعض أصحاب الأعمال الذين يقولون إنهم بعد أن يدربوا الشباب على العمل يتركونهم وينتقلون للعمل في مكان آخر، مسببين لهم خسارة مادية في التدريب. أيضا من الأخبار الملفتة للنظر في هذا الكتاب ما ذكره المؤلف عن وجود محكمة خاصة بقضايا الاختلاف بين الملاك والبنائين، وما أحوجنا في هذا الوقت إلى مثل هذه المحكمة، فمشاكل المقاولين والملاك كثيرة، والمالك يضطر أحيانا إلى التنازل عن حقه؛ تجنبا لخوض المشاكل التي ستواجهه فيما لو استعان بالمحكمة لإنصافه.

أظنك، أيها القارئ الكريم، بعد هذا كله، تبحث عن مؤلف الكتاب.. المؤلف هو عبدالعزيز عمر أبو زيد، وقد تلتقي به في معرض الكتاب المقام في الرياض هذه الأيام.

عكاظ 1434/4/29هـ