وأُغلقت «الندوة» بالسلاسل..!

للمدن كما للناس، شخصية وروح، وذاكرة وذكريات، ولها كما للناس أيَّامُ إقبال وبهجة، وكذلك أيَّامُ حزن وأسى وانكسار. المدنُ كما الأمهات تفخر بأولادها و برِّهِم، وتغضبُ وتتألمُ لعقوقهم وجحودهم. لكنَّها لا تتكلم، تبتلعُ أساها في صمت وتبيتُ وفي حلقها غصة، غصة مرَّة عميقة لا تتزحزح!


ثمَّة أمر غير مريح من البداية، أمر غامض يدعو للريبة في ما جرى و يجري لصحيفة «الندوة»، منذ رمضان الماضي وتلك الأخبار الغامضة عن تطوير الجريدة والوعود الباذخة بـ»انتشال الصحيفة من كبوتها.. ودفعها إلى الأمام لتنافس كما كان عهدها منذ أوائل صدورها».


ورغم الوعود ورغم زيادة رأسمال المؤسسة من عشرين إلى مئة وخمسين مليون ريال فإنَّني لم أشعر بالارتياح.


لم أشعر بالارتياح والشائعاتُ تتوالى عن تغيير اسم الجريدة حيناً وتصفية طاقمها ونقل مقرِّهَا إلى خارج مكة حيناً آخر، لكنَّنِي كنت أفزع بآمالي إلى الكذب، فلا يعقل أن يُقرَّ أبناء مكة المكرمة بذبح وتصفية رئة مكة وتراثها الثقافي بهذه السهولة. ولا يُعقَل أن يطغى الحسُّ التجاريُّ للحظة الراهنة على الأفق الواسع والإرث الضخم الذي تحمله «الندوة» الكيان والتاريخ والهوية. فالصحف والمجلات ليست مشاريع تجارية بحتة، ولا تُقاسُ أهميتُها بعدد الريالات التي تدرُّها على مالكيها، وأسوأ ما يمكن أن يحدث لصحيفةٍ ما أن يديرَها تاجرٌ يطغى حسُّه التجاريُّ على الفكر والرسالة الإنسانية التي تحملها الصحيفة.


كنت أتساءل مستنكراً: لماذا التنكُّر لاسم (الندوة) والإصرار العجيب على تغيير الاسم و البدء باسم جديد وعدد رقم صفر؟ لكنني فُوجئت أنَّ الأمر تعدَّى ذلك إلى التملُّص من كل ما يخصُّ الصحيفة الأم وموظفيها، فالمؤسسة التي رفعت رأسمالها إلى 150 مليون ريال سرَّحَت طاقم التحرير في الجريدة بالكامل دون أن تُوفِّيَ بحقوقهم المادية، وألجأتهم إلى ساحات المحاكم ليصدر أمر قضائي بإغلاق مقر الجريدة حتى تُوفِّيَ التزاماتها تجاههم، وقامت الشرطة بالفعل بإغلاق بوابة الجريدة بالسلاسل!.


هل تتخيلون مدى رمزية هذه الصورة، الجريدة القديمة والعريقة والوحيدة التي تصدر من مكة المكرمة، والتي شهدت صولات وجولات وأيامَ سعد ونحس وحياة وأخبار ومداولات لأكثر من خمسين عاماً، تبيت حزينة خاوية، وشرطيٌّ يغلق بابَها بالسلاسل بعد أن ضاق بأبنائها الحال وتشرَّدُوا بلا عمل ولا حقوق.


من العبث أن نسأل أين ذهبت المائة والخمسون مليوناً؟ و كيف ظلَّ مجلسُ الإدارة متفرجاً على هذه المهزلة؟ وهل هذا هو التطوير الذي سينتشل الجريدة من كبوتها؟ وأين هي وزارة الإعلام ممَّا يجري؟
لقد صرَّح معالي وزير الإعلام وقت زيارته للندوة قبل سنوات «أنَّه لو غادر الوزارة ولم يكن له إنجاز غير تطوير (الندوة) لكفاه ذلك».


يا معالي الوزير.. لقد تم وأد «الندوة» وإغلاقها بالسلاسل.. وأنت لم تغادر الوزارة بعدُ، فماذا أنت فاعل؟!

الشرق 1434/4/14هـ