الشيخ محمد مداح التاجر الصدوق المتصدق

يختص الله بعض الناس بصفات مجيدة، وخصال حميدة، تجعله صاحب مقامات ورتب عند الله عز وجل، ومحل تقدير وحب عند خلقه. ويزيد وينمو عطاؤه وينضج لمعرفته بمدى الحاجة في ذلك الوقت، ولتلك الفئة من الناس، ولذلك العمل المحدد، كل ذلك -بفضل الله ومنِّه-، يجعله أكثر قربًا من المولى، وأكثر حبًّا له، وحبًّا فيه. إنني إذ أسجل هذه السطور عن واحد من الرجال العظام إنما أصدر عن العمل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اذكروا محاسن موتاكم، ولأن في إشاعة الفضل إغراء بمحاكاته، ولأن هذا الرجل يستحق أن يعرفه مَن لم يكن يعرفه.


عرفت هذا الرجل قبل خمسين عامًا وأنا في المرحلة الابتدائية، فما إن يهل شهر رمضان من كل عام حتى يهيئ طبّاخًا ومعاونًا له بأمر والده -يرحمه الله- وبإشراف مباشر منه، يقوم بإعداد الإفطار على أفضل ما يكون، وبأنواع متعددة يوزّع على مَن يريد دون سؤال عن حاله، يأتي بقدره فيعطى من ذلك الطبيخ الطازج اللذيذ المكلّف وكأنه طُبخ لكبار الأغنياء، ويستمر الحال كذلك إلى يوم عيد الفطر. ذلك بعض أعماله الظاهرة في ذلك الشهر المبارك، وهناك أعمال خفية اطّلعتُ على بعضها بحكم قربي من تلك العائلة المباركة.


سافرتُ مع هذا الرجل في سنة 1967م، سنة النكسة، كما تُسمّى لدى الكثير، وأنا في أواخر المرحلة المتوسطة، فزرنا لبنان وسوريا والأردن لمدة اثنين وعشرين يومًا، فأثار أعجابي في تلك الفترة خلقه الرفيع، وشمائله الطيّبة، ونفسه السمحة، وتصرّف المسلم الناضج. ويزداد إعجابي بذلك الرجل العظيم كلّما تذكرتُ أحداث تلك الرحلة، خاصة بعد أن تقدم بي العمر، وصرتُ قادرًا على تثمين المواقف النبيلة، ورؤية الأشياء على حقيقتها.


عملتُ أنا وزملاء أكارم لي في جمعية تحفيظ القرآن الكريم التي كانت تديرها فئة متميّزة من الرجال على رأسهم أستاذي الكبير معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم -رحمه الله-، ممّا أتاح لي فرصة الاطّلاع على بعض أعمال الشيخ محمد سعيد مداح -رحمه الله-. وأذكر واحدة منها فقط، تبّرع -رحمه الله- بأراضٍ، ومبنى، ومستودع في كيلو 2 قريبًا من قصر خزام لجمعية تحفيظ القرآن الكريم، وتم تسليم المبنى والأرض، ولم نتسلم المستودع، وبقي في المستودع بضائع كثيرة له -رحمه الله- وكان الحياء يمنع القائمين على أمر جمعية تحفيظ القرآن الكريم من السؤال عن المستودع ووقت تسليمه، وحينما عرفوا أن لي به قرابة، كلّفتني الجمعية بتولّي هذه المهمّة فذهبتُ إليه وأخبرته بذلك، فقال لي: كنت أظن أنكم (أي جمعية تحفيظ القرآن) قد وافقتم على أن استأجره منكم بمبلغ 120.000 ريال سنويًّا (إن لم تخني الذاكرة)، فعدت إلى الجمعية فأخبرتها بذلك. أجرة كبيرة، مبلغ كبير رصدته نفس سخية ليلحق تبرعه بالمقر تبرع يسهم في دعم الجمعية وقدرتها على مواصلة مهامها العظيمة، إنه سخاء المؤمن السمح، والسخيُّ قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار. كما جاء في الحديث الشريف.


حقًّا، ما أحسن الصدقة! وما أعظم نفعها للمحتاجين! وما أعظم دورها في المجتمع، إنها أكبر مظاهر التكافل والتعاطف، إنها مجلبة للحب، ومرضاة للرب، وما أجملها وأعظمها حين تكون في السر، حيث لا يقصد بها رياء ولا سمعة، (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفّر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير).


أحسَّ -رحمه الله- بحاجة مرضى الفشل الكلوي في مدينة مكة المكرمة إلى عمليات غسيل مستمرة، ومعظم هؤلاء أناس اجتمع عليهم الفقر والمرض، فإذا به يستشعر مسؤولية المسلم تجاه أخيه المحتاج، فيهيئ مكانًا مزوّدًا بكل الآلات والمستلزمات، ويجلب له طاقمًا طبيًّا مدربًا، وحين أدرك زيادة عدد المرضى زوّد المبنى بجهاز غسيل جديد، فجزاه الله خيرًا، وضاعف له الثواب أضعافًا مضاعفة.


تلقيتُ خبر وفاته يوم الخميس 12/3/1434هـ، وعلمتُ بأنه دُفن بالبقيع "بقيع الغرقد". رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح الجنان، وعوّضنا خيرًا وعوّض مَن كان يصلهم بره خيرًا، وألهمنا وذويه الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون".

المدينة 1434/4/9هـ