الحنين إلى تاريخ مكة

شغلتنا الحياة، وباعدت بيننا وبين الحب الأول، الذي غرس مرساته في قلوبنا، لكن الحنين يبقى جسر العودة الدائمة إلى مكة ورباط الوصل الذي لا يقطعه تباعد الأمكنة ولا جفاء الغربة كما يقولون : ( البعد جفا) إلا البعد عن مكة المكرمة يضاعف الحنين فنهرع إليها كالطيور التي تعود إلى أعشاشها، وفي بيت الله الحرام يُروى الحنين، ذلك الارواء الذي لا تستطيع أن تجد حلاوته إلا هناك في مكة المكرمة وفي بيت الله الحرام وأنت تطفئ ظمأ الحنين بشربة زمزم وترجو الشفاء من أمراض النفس والبدن ( زمزم لما شرب له) .


لم أكن أعلم أن لزمزم ( قبة ) وأن هذه القبة ليست بناء أصم فقط، بل بناء يضج بالحيوية، ويقوم بأدوار مختلفة في مكة المكرمة في حقبة ما، لذلك لم أخفِ دهشتي عندما اقترحت الصديقة الرقيقة أستاذ التاريخ الاسلامي المشارك بكلية الشريعة والدراسات الاسلامية قسم التاريخ والحضارة الاسلامية جامعة أم القرى بمكة المكرمة د/ لمياء شافعي ( قبة زمزم ودورها الديني والاعلامي في مكة المكرمة 579هـ - 1383هـ/ 1183م- 1963م ) موضوعا للقاء الصالون الثقافي النسائي يوم السبت الماضى بالنادي الأدبي الثقافي.


ظننت أن الموضوع ليس محرضاً على الحضور كما أن مادته لا يمكن أن تغطي المدة الزمنية المقررة للقاءات الصالون مع ثقتي الكاملة في قدرة العزيزة د/ لمياء شافعي على تغطية أي موضوع بعلمها وشخصيتها الجميلة، لكن بعض الظن إثم كما يقولون، لذلك تحول ظني إلى دهشة وحنين وترقب بعد أن وضحت لي بعض جوانب الموضوع أو المحاور التي ستكون مدار حديثها.


ذكرت : ( بأن المؤرخين المسلمين اهتموا بتاريخ بئر زمزم وما ورد فيها من الأحاديث الصحيحة والآثار والأخبار فكتبوا في فضلها وخصائصها وموقعها ثم كتبوا في مبانيها الأولية التي طورت عبر العصور ووردت هذه الكتابات ضمن كتب التاريخ المكي والتاريخ العام ثم خصصت كتب كثيرة لبئر زمزم).
الحقيقة توالت الأسئلة من الكثيرات وعلى موقع الفيسبوك عندما وضعت العزيزتان عضوتا الصالون الثقافي إلهام بكر وعاليا أبو سليمان الدعوة على صفحتهما ( هل لزمزم قبة؟) و (ماهو الموضوع المهم؟) لم يكن لدينا جواب وقتها بل كانت هذه الأسئلة تستفز الفضول لمعرفة التفاصيل من ضيفتنا العزيزة في لقاء الصالون.


وقد ذكرت بأن ما أثار اهتمامها بتلك القبة التي شاهدتها في الصور القديمة للمسجد الحرام وقرأت عنها في مؤلفات مؤرخي مكة ومن أهمهم بني فهد أو الفهديين، من العائلات المكية العريقة التي اشتهر رجالها باهتماماتهم التاريخية ومؤلفاتهم في تاريخ مكة من تراجم وأحداث . كانت كتاباتهم فيها على نظام الحوليات فسجلوا أحداث مكة باليوم والشهر والسنة على النطاق السياسي والاجتماعي وغيره فبدأ الجد وهو النجم عمر بن فهد المتوفى سنة 885هـ وكان كتابه إتحاف الورى بأخبار أم القرى وله أيضاً الدر الكمين بذيل العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ثم جاء الأب وهو العز بن فهد فأكمل كتاب والده بكتاب بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى وله أيضاً غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام ثم جاء الحفيد جار الله بن فهد فكان كتابه نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة إتحاف الورى أكمل فيه كتاب والده إلى سنة وفاته 949هـ.


كثيرات جذبهن الحنين إلى التاريخ المكي إلى الحضور إلى صالون أدبي جدة، كان لقاء مميزا بحضوره المتنوع والكبير، وموضوعه الذي ملأ الفراغ المعرفي الذي غيبته مناهج التعليم بكل مراحله كما غيبها الاعلام بكل قنواته وكان السؤال : ( لماذا لا تضمن مناهج التعليم هذه المعلومات المهمة ) كل الشعوب تحفظ تاريخها جيدا فالتاريخ ليس ذكر الحوادث وتاريخها وشخوصها بل الأمكنة هي التي تعطى للحوادث مصداقيتها.


المكان أو الأثر أو الآثار هي التي تعطي الصورة الحقيقية لمراحل التطور الانساني وتدفع الشعوب للتقدم والاضافة والسير في طريق النهضة بخطى واثقة لكن المحو والازالة هما آفة الحضارة.


قالت د/ لمياء شافعي: ( أثناء قراءتي التاريخية شد اهتمامهم تلك الأخبار الكثيرة الواردة عن قبة بئر زمزم وأن هناك مبنى مُقاماً فوق بئر زمزم وهذا المبنى يتكون من طابقين وأن المؤذن فوق قبة زمزم يسمى رئيس المؤذنين فهو أول من يبدأ بالأذان ويتبعه المؤذنون في سائر المنائر المحيطة بالحرم . وأن هذا الدور للقبة لا يقتصر فقط على الأذان وإنما كان لهذا المبنى دور إعلامي هام بمكة فمن فوق قبة بئر زمزم يُعلن المؤذن عن مناسبات دينية وسياسية واجتماعية ويبلغها إلى عامة الحاضرين بالمسجد الحرام . وبرز استخدام هذا المبنى كمنبر إعلامي لعدم توفر وسائل إعلام بديلة في ذلك الوقت ، ولوجود هذا المبنى في وسط الحرم الشريف قرب الكعبة المشرفة وغير بعيد عن الأئمة والمسلمين في وقت لم تكن فيه مكبرات الصوت قد عُرفت بعد.

جريدة المدينة 1434/3/25هـ