حارات مكة ومـِنى والقُرشيـُّون وحديثٌ ذو شجـُون

مقالي في هذا الأربعاء ليس عن حدود ومعالم حارات مكة الجغرافية وآثارها الإسلامية التي فصلتها في كتابي:(صور من تراث مكة المكرمة) وليس الحديث أيضًا عن الأنساب وذكر بطونهم وأفخاذهم وظواهرهم، وإنما أكرر وأُكد أن كتابنا (صدى الأيام .. ماذا في حارات مكة) ليس كتابًا جغرافيًا يضم كل مساحات وحدود الحارات بالتفصيل والتدقيق، ولاهو أيضًا كتاب أنساب يتناول ذكر القبائل القديمة والأسرة والعوائل الحديثة القاطنة بمكة المكرمة، وإنما هو كتاب ذكريات وعادات وتقاليد، وذكر أخلاق وقيم وآداب سادت في حارات مكة ثم بادت، برجالها ونسائها، بشيبها وشبانها، بمجالسها وبيوتها، بأسواقها وميادينها، بأوديتها ومرابعها، ببساتينها النضرة ومياها العذبة.


كانت صور وحياة جميلة ربما الجيل اليوم في أمس الحاجة إليها، لما نراه من فتور وقصور عمّا كان سائدًا، وكان خيرًا عميمًا يلامس القلوب من قريب وبعيد عن ذات الشخص وعن طريق قريبه وجاره وزميله، بل حتى عن طريق ابن السبيل في شوارع وطرقات ذلك المجتمع، إذ كانت التربية والأفكار والأوامر والنواهي في سبيل التقويم تكاد تكون واحدة، أيضًا المقاصد والآمال تكاد تصب في قالب واحد بلا شواذ.


وخشيتي من ضياع مثل هذه الأجزاء والفقرات من ذاكرتي تلكم ما دعاني إلى وضع كتاب: (حارات مكة) جاهدًا ومُجهدًا ذاكرتي في تجميع وتصفيف ما تناثر من شعوري نحو مكة، وما زلت أعشق نبعها وعبق ثراها، وليت الأيام تعود وأنشر بخور العود.


أما ما يتعلق بمنى وحاراتها ورجالها من سكانها القرشيين فأترك القارئ الكريم مع أحدٍ من سكانها زودني بمعلومات عن سكان حارات منى لم أكن قد استقيتها من أهلها وبالتالي لم أدرجها في الكتاب، فكان منه هذا العتب الخفيف وهو مقبول ولطيف: (الأستاذ القدير: عبدالله محمد أبكر الموقر/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. اطلعت على كتابكم الشيق الجميل المسمى (صدى الأيام.. ماذا في حارات مكة) فوجدته مليئًا بذكريات ذات عبقٍ اجتماعي وتاريخي جميل، ومع جمال الكتاب إلا أن هناك ذكريات جميلة نسيتها ربما لمشاغلكم الكثيرة أعانكم الله وأتمنى أن تشير إليها في طباعة قادمة بأسلوبك الأدبي الرائع ليحقق الكتاب الفائدة المرجوة منه.


أشرتم -حفظكم الله- إلى قهوة (أبوسكر) وهي قهوة قديمة ومقاهي أبوسكر القرشي كثيرة وموجودة في جميع أحياء مكة قديمًا ولكن أشهرها كما تفضلت قهوة البيبان ولكن لم تشر إلى من هو (أبوسكر) فهو المعلم الشيخ أحمد خضر القرشي. وهو رجل عصامي وكان يسكن بشعب قريش بحارة أجياد وهو أحد التجار القدامى بمكة ولا زالت عائلته الكريمة تسكن بشعب قريش بعد رحيله -رحمه الله-.


كما لم تشر إلى أحد أبناء مكة البارين وهو الأديب الأستاذ والسفير الشاعر حسن عبدالله القرشي -رحمه الله- وقد صدرت له داويين شعرية جميلة وكان شاعرًا مرهف الحس والوجدان طيب القلب له أشعار عن مكة مدونة، وقد كان من زملاء الدكتور حسين نجار وهذا الأخير من حارة المسفلة كما هو معروف وكما ذكرت في كتابك.


ومن الحارات الجميلة التي لم تذكرها: حارات منى والمشاعر المقدسة، وكان يسكنها البقية الباقية من قبيلة قريش السوالمة والقنعان قديمًا، كانت عبارة عن أحواش وبيوت وعمائر قديمة وقد أشار العلامة حمد الجاسر -رحمه الله- إليهم بقوله: «وقريش تسكن في منازلها بمنى وعرفات وأطرافها» وأشار المؤرخ الأردني رضاء كحاله لهؤلاء في كتابه أنساب العرب.


وقال معالي الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان الذي شاهد منى قديمًا: منى في الوقت الحاضر من مكة وهي من أحيائها ويسكنها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف تقريبًا من السكان ينتمي معظمهم إلى قبيلة قريش التي تسكن منى، وكان الأشراف القرشيون يسكنون وادي فاطمة على طريق المدينة المنورة وقرية الحسينية خلف حي العوالي بمكة المكرمة.


وقد تم تفريغ بيوت منى تدريجيًا بسبب التوسعة الميمونة وأخذوا مستحقاتهم والحمد لله.
وهناك حارة الخانسة (الخنساء) المعروفة لدى العامة بـ(الخانسا) وكان يسكنها أيضًا أفرادٌ من قبيلة قريش. وبعد التوسعة في منى انتقلوا إلى أحياء مكة كالشرائع والغسالة وغيرها من الأحياء.


وكان في منى (نادي صقر قريش الرياضي) أسسه الشيخ الأستاذ غازي القرشي وابنه الأستاذ ممدوح غازي القرشي، وكانوا يلعبون مباريات رياضية مع أبناء حارات مكة الأخرى وكان شيخهم الشيخ محمد علي القرشي ـ رحمه الله ـ وبعد وفاته تولى المشيخة ابنه الشيخ حسين محمد على القرشي الذي كانت تستعين به إمارة منطقة مكة المكرمة في كثير من اللجان، ومنها لجنة تحديد بعض معالم منى والمشاعر المقدسة قديمًا، وهو من سكان منى القدامى وكان بيته خلف الجمرات. وشيخهم الآن هو الشيخ سراج محمد على القرشي.


ولسكان منى مقبرة قديمة بجوار الجمرات، وكان للكل حارة مقبرة خاصة بها لصعوبة وسائل النقل والمواصلات في ذلك الزمن، ولا زالت مقبرة فخذ المهادية من قريش موجودة بجوار الجمرات إلى الآن غير أنها مقفلة. ومفتاحها لدى الشيخ سراج محمد على القرشي، وكان في منى مدرسة ابتدائية وكان مديرها الأستاذ محمد مختار، ومن أساتذتها الأستاذ حامد القرشي والأستاذ عاتق القرشي والأستاذ عاطي القرشي ـ رحمه الله ـ والأستاذ منصور القرشي -رحمه الله- ومنهم الأستاذ صالح عطية القرشي وكان يدرس في مدرسة الحفائر الابتدائية بمكة.


وكان بخلف الجمرات مكتب العمدة سعود بن عطية القرشي عمدة محلة منى ـ رحمه الله وأحيانًا يضاف إليه (حوض البقر العزيزية الآن) إذا كان عمدتها في إجازة وكان يشرف على نظام العُسس في منى وأطرافها والعُسس هم الحراس الليليون.
وكان العمدة سعود القرشي ـ رحمه الله ـ يسعى للصلح بين الهوشات والخصومات ويدفع من ماله الخاص للقود والغرم لمن لا يستطيع، فهو رجل خدوم حقيقة وطيب القلب يعرفه كل من احتك به.


ولقبيلة قريش منى شهرة وخبرة ودراية ومعرفة فائقة في قص الأَثر، وممن برع في هذا المجال الشيخ شويمي حاسن القرشي، وكان يعمل في شرطة العاصمة المقدسة، ومن أشهرهم الآن في قصّ الأثر بمكة المكرمة الشيخ محسن بن حسن أبوسمن القرشي عمل في قصّ الأثر مع الجهات الأمنية لمدة تجاوزت أربعين عامًا، كما عمل في المحاكم الشرعية والقطاعات الأمنية.


وقد (ذكرت هذه المعلومات جريدة المدينة يوم الأحد الموافق 7-11– 1433هـ العدد18050 بعنوان أبوسمن القرشي 40 عاما في قص الأثر) وقصّ الأثر في السابق كان له دور كبير في كشف غموض الكثير من الجرائم وممن اشتهر بذلك أيضًا أهل المغّمس من قريش خاصة، وساهم في ترسيم حدود الحرم الشريف وحدود منى وعرفات ومزدلفة.


وكان بجوار شويمي على بعد أمتار مكتب الشيخ العم عطية أبوسمن القرشي من شيوخهم حفظه الله ـ ومنهم الشيخ الأستاذ المطوف ورجل الأعمال سعد جميل القرشي وعمدة المشاعر المقدسة الآن هو الأستاذ غازي بن عيضة بن بريك القرشي.


كذلك هناك بني شيبة القرشيون ومنهم الشيخ عبدالعزيز الشيبي القرشي ـ رحمه الله ـ سادن الكعبة المشرفة.


وكان العمل في حارات منى وأطرافها يبدأ في شهر ذي القعدة بنصب الخيام، وتصبح منى كخلية نحل من كثرة الناس الذين يقومون بنصب الخيام والتيازير، وتقوم عملية كراء البيوت من أفراد قبيلة قريش في منى فقد كانوا يعتمدون على كراء بيوتهم في معيشتهم.


ويلتقون أبناء حارات مكة في شهر ذي الحجة في مكة مع أهل منى من قريش في جو إيماني يسوده صفاء الأخوة والمحبة والتسامح والتفاني في خدمة الحجيج، وكلهم قد انصهروا في هذا البلد تظللهم قدسية المكان والزمان لخدمة بعضهم بعضا وكلنا لآدم وآدم من تراب، مرديين: «إن أكرمكم عند الله اتقاكم» و»لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى» ففي الحج تذوب الفروق الدنيوية ويتجه الناس إلى الله طالبين عفوه ومغفرته والبعد عن الإساءة إلى أحد.


نأمل من سعادتكم حفظكم الله الإشارة إلى ذلك في طبعتكم القادمة حتى تكتمل منظومة الذكريات لجميع حارات مكة، ولعل هناك أخوة وأصدقاء ممن ينتمون إلى قبيلة قريش ممن كان يسكن منى خاصة الشيخ سراج محمد على القرشي ولديه صور قديمة لحارات منى مثل حارة سُمير وتقع بعد سوق العرب، وقد هُدمت في عهد الملك خالد ـ رحمه الله ـ وحارة أم قمري وكانت في موقع المجزرة الجديدة يسكنها كلها عوائل قرشية، والمغمس يسكنه أفراد من قبيلة قريش وكانوا يعتمدون على الزراعة عثرًا على مياه الأمطار وينزلون مكة ويبيعون منتجاتهم الزراعية كالحبحب (البطيخ) والملوخية وغيرها، ومعظم هؤلاء من فخذ (البقاقير) من قريش المغمس، نسأل الله أن يبارك فيمن بقي منهم.


وشكرًا لكم كما نسأل أن يبارك في المملكة العربية السعودية وقادتها من آل سعود الكرام الغر الميامين، والله يحفظكم ونتمنى أن تشير إلى ذلك في طبعات كتابك القادمة قبل أن تذهب تلك الذكريات الجميلة.


أبو محمد القرشي
أشكر لك أخي الكريم هذه الإشادة عن الكتاب، وهذا العتاب والإشارة إلى الملاحظات وهي قيمة وجديرة بالأخذ والاهتمام، ولكن كما يقال (العتب على النظر) كذلك العتب على الذاكرة وقصور الهمة، وكما قيل: (ما لا يدرك كله لا يترك جله) وما توصل إليه الباحث هو مبلغه من العلم.


وأكرر شكري على قراءاتك الجيدة للكتاب، وفهمك له أنه كتاب ذكريات، وليس كتاب جغرافيا ومشجرات أنساب، وحتى لا يقول قائل ومعاتب إننا أهملنا حارته أو أغفلنا ذكر عائلته ونسبه فللأنساب رجالها وكتبها المتخصصة يمكن الرجوع إليها لمعرفة هل هو منها أم لا.


وأما بالنسبة للشخصيات التي ذكرتها من القرشيين في حارات مِنى فإنني أعرف منها الشاعر حسن القرشي ولا يخفى على الجميع، وأما أبوسكر أو عم أحمد خضر كما كنا نناديه في وسط القهوة في (البيبان ـ جرول) فإنني أعرفه تمامًا وكأنه الآن أمامي بثوبه الأزرق وفي وسطه (البقشة الكشميري المشجر) وعلى رأسه الكوفية البلدي المنشأة.. كان رجلاً كريمًا باشًا يجلس في وسط القهوة نهارًا، وفي المساء يأخذ جانبها الجنوبي القريب من مقهى محمد الكاو الصغير، ينصب له كرسيه الخاص و(تربيزته) الخاصة ليشرف على عمل المقهى وطلبات الزبائن القادمين من بطن مكة وظواهرها، يتقدمهم عم سليمان وعم سالم وعم يحيى من اليمنيين المميزين في تقديم الخدمات لروّاد المقاهي وزبائن المطاعم آنذاك.


وكانت منطقة البيبان عبارة عن محطة سيارات فيها مقهيان ومطعمان في الجهة الغربية من ناحية بيت أستاذنا القدير أحمد السباعي،ومحطة وقود في الجهة الشرقية إلى جانب دكاكين وبقالات وبيوت ممتدة إلى أعلى (جبل جحيشة) وبرحة كبيرة موازية للقشلة مخصصة لغسل السيارات صغيرة وكبيرة، خصوصًا سيارات (اللّواري) المحملة بالبضائع ومواد الغذاء والبناء المتجهة إلى شمال وشرق مكة وجنوبها وغربها، ومنهم أصحاب سيارات (التكاسي وخط البلدة) المتجهة إلى الزاهر والشهداء والعمرة والنوارية والجموم ووادي فاطمة والمدينة المنورة، أو المتجهة إلى شارع الحج وحي الغسالة ومشعري منى وعرفات، ومدينتي الطائف والرياض إذ لم يكن هناك طريق أو شارع للسيارات يؤدي إلى هذه الأماكن سوى هذا الشارع، ولهذا سمى بـ(شارع الحج) فكانوا ـ وكلهم من أهل البلد ـ يجتمعون ويتمتعون بخدمات تلك المقاهي والمطاعم ويغسلون سياراتهم حتى يحين وقت رحيلهم في الليل أو في الأصيل، وقد ذكرت في كتاب: (حارات مكة) بعض هذه الذكريات وغيرها.

[جريدة المدينة ( ملحق الاربعاء ) 1434/2/27هـ