عمار يا مكة

انطلقت من أعماقي وأنا أجوب أنحاء مكة المكرمة حيث لم تعد الشعاب شعابا حتى لأهلها وسكانها، هالني حجم الهدم الذي استمر طوال الست سنوات ولم يقابله تعمير أو بديل لمن فقد سكنه ومأواه، بل كثيرا ما يتم الهدم قبل استلام التعويض برغم الأوامر المانعة، فهل يهاجر السكان؟. لو تم هدم بهذا الحجم في أية مدينة في العالم لسارع مسؤولوها بتشكيل فرق مختصة لإدارة الأزمة، فأن تفقد مدينة هذا الكم من مبانيها وأراضيها لا شك سيخلق أزمة، أترك لكم حساب كم عائلة وجدت نفسها بدون مأوى بعد أن تجاوز الهدم حتى الآن 20 ألف عقار وأحياء بكاملها، أترك لكم حساب حجم الأراضي التي فقدت من الاستخدام بعد تخصيصها للطرق الدائرية أو لقطار الحرمين ومحطاته، إضافة للأحياء العشوائية التي أزيلت والتي ستزال، إضافة لمشاريع تصريف السيول، أما المنطقة المركزية حول الحرم الشريف فقد أزيلت بنسبة 60% مما ممنع الاختلاط والتثاقف المطلوب بين السكان وضيوف الرحمن فحولت مكة لمدينة سياحة دينية مع كرهنا للمسمى، وشوهت ذاكرة شعبية للزمان والمكان والسكان، إلا ما نزع لصالح الحرم أما ما أخذ استثمارا فتلك قصة أخرى.


ما سبق كان كافيا لمضاعفة أسعار الأراضي، السعر بالفعل يتضاعف عند الإعلان عن كل مشروع هدم جديد، لكن الأسعار تضاعفت مرات بمكة لعوامل إضافية أخرى قديمة وجديدة، أكتفي بمثلين منها أو ثلاثة، هناك مخططات سكنية عدة بقيت بدون خدمات أو بنى تحتية طوال عشرين عاما وأكثر مما عرقل السكن بها، هناك مخططات المنح الحديثة التي ستصدم إذا علمت أن حوالي 30 ألف منحة منها لذوي الدخل المحدود لم تصلها الخدمات منذ سنوات، ثم الأوقاف في مكة ستصدم أيضا إذا علمت أن هناك أكثر من 5 مليارات ريال تعويضات مجمدة ومعطلة بطول إجراءات التمكين من شراء البديل وكلما طالت الإجراءات عجزت قيمة التعويض عن شراء بديل لتوالي ارتفاع الأسعار، إضافة للبخس في قيمة التعويض التي لا تمكن من شراء بديل مناسب وقد تصاعدت شكوى نظار تلك الأوقاف ووصلت للمحاكم.


بلغت قيمة التعويضات للعقارات المنزوعة حوالي 80 مليار ريال منها 60 مليارا للأوقاف، هل تكفي هذه الثمانين مليارا لبناء 20 ألف عقار في مكة لذات عدد السكان؟ ستقولون تكفي لبناء مدينة، ربما ولكن ليس في مكة حيث كل العوامل السابقة فاقمت أسعار الأراضي حتى أصبح سعر المتر يتراوح بين المئة والمائتي ألف ريال تزداد ارتفاعا كلما اقتربت من الحرم الشريف حيث وصلت إلى نصف مليون ريال للمتر الواحد، ولو تمت عمليات الهدم المهولة بنوع من التنسيق لبناء البديل وتطوير المتاح بتقديم الخدمات الأساسية لما تفاقمت الأسعار بهذه الحدة، لو سارعت البلدية بمد الخدمات الأساسية لكثير من أحياء مكة المحرومة منها لما عانى السكان من ندرة الأراضي المهيأة للسكن، لو قامت البلدية بتطوير ضواح جديدة لتمددت مكة طبيعيا فالمدن تنمو طبيعيا وتكبر على مر الزمان إلا مكة فإن مساحة السكن فيها تقل كل عام وما يهدم من سكنها لم يجر تعويضه حتى الآن.


يتعلل كثيرون بأن مكة كلها أودية ومجاري سيول مما يعرقل مشاريع الإسكان بها وينقص المعروض من أراضيها، يا سبحان الله هل مكة المدينة الوحيدة في العالم التي بها جبال وأودية، عمان على مرمى حجر منا، اسطنبول أمامنا ومئات من المدن الأخرى بنيت على جبال وأودية وجعلت لها مجاري للسيول لا للتخلص منها ولكن لإعادة استخدامها فهي ثروة حتى في المدن المطلة على أنهر، بينما نحن نفاخر بمشاريعنا الجبارة لتصريف السيول مع أننا نعاني من ندرة المياه، والناس تحت ضغط الأسعار مضطرون للبناء على مجاري السيول ومن هنا نشأت مشكلة الأحياء العشوائية بمكة فالمبدأ الإداري يقول إن الفوضى ستحل نفسها إذا لم تجد من يحلها.

عكاظ 1434/2/26هـ