الساحة الشرقية و ثراؤها بالآثار النبوية و الوقائع التاريخية
الكعبة المشرفة هي أول بيت وضعه الله للناس في الأرض ، و أمر خليله إبراهيم عليه السلام بترك زوجه وولده في جواره ، فكانت دعوته :﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، ثم كان أمر الله له و ابنه اسماعيل عليهما السلام برفع قواعد البيت ، و بأن يؤذن في الناس بالحج إليه ، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات .. وبذلك فقد أراد الله سبحانه و تعالى لهذا الوادي الحياة و النماء ؛ و أن تنشأ حول هذا البيت العتيق حضارة إنسانية مصنوعة على عين الخالق عز وجل ..
فعاشت شعوب و قبائل حول هذا البيت على مدى آلاف السنين منذ أن خلّف سيدنا إبراهيم زوجه وولده عليهم السلام جميعاً -بأمر ربه- في جواره ، ومروراً بعصر النبوة الخاتمة على صاحبها الصلاة و السلام وحتى اليوم ، و تركت خلفها آثاراً و تاريخاً وحضارة .. ولا شك أن المحيط بالكعبة المشرفة مليء بالآيات و الآثار و الشواهد و المعالم التاريخية ..
وفي مقال اليوم أود أن أسلط الضوء على بعض من تلك الآيات و الآثار النبوية و المعالم التاريخية التي تقع في إحدى جهات الكعبة المشرفة و هي جهة الشرق ، التي تكاد تكون أكثر الجهات ثراءً بها ، حيث أنها تضم العديد منها ، و هو ما يدل -فيما بدا لي- على أن حياة المكيين منذ ما قبل الإسلام و بعده كانت في معظم مناشطها تتم في هذه الجهة..
ففيها من الآيات البينات مقام إبراهيم و بئر زمزم و الصفا و المروة ، و فيها من الآثار دار الأرقم و دار أبي سفيان و دار السيدة خديجة التي عاش فيها سيد الخلق صلى الله عليه و سلم 28عاما ، و فيها مولده عليه السلام ، و فيها الموضع الذي غزّ فيه صلى الله عليه وسلم رايته يوم الفتح وهو موضع بئر جده قصي بن كلاب (مسجد الراية الذي أزيل مؤخرا) -وهو سبب تسمية الحي بحي الغزّة- ، وقريباً منه المكان الذي أعطى فيه الأمان لقريش ، وفيها كان نهايات مساره يوم الفتح إلى الكعبة المشرّفة (المدعى) ، و فيها شعب أبي طالب حيث حوصر صلى الله عليه و سلم (المشهور بشعب علي) و فيها موضع دعوته للجن (مسجد الجن) ، و الموضع الذي فيه سلّمت عليه الشجرة (مسجد الشجرة المسمى حالياً بمسجد الجندراوي) ، و مقبرة مكة التي تضم قبر أم المؤمنين خديجة و قبور كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (جنة المعلاة) ..
و هذه الساحات الشرقية -وأعني بها شرق الكعبة المشرفة- شهدت مشاهد ووقائع دينية و تاريخية هامة ، ففيها ضربة سيدنا جبريل عليه السلام للأرض لينبع ماء زمزم المبارك ، و فيها كان سعي أمنا هاجر عليها السلام ما بين الصفا و المروة (سفحي أخشبي مكة أبي قبيس و قعيقعان) و على صخراتها جهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بدعوته ، و منها اُسري به إلى المسجد الأقصى ، ومنها هاجر إلى المدينة المنورة ..
و هي أيضاً تضم مواقع و أسواقاً مشهورة مضى على وجودها و تسمياتها مئات السنين ، مثل أسواق المدعى و الجودرية و سوق الليل ، و أحياء عديدة مثل شعب علي و شعب عامر و القشاشية وربع أطلع و الغزة و القرارة و مَقْرَات الفاتحة و المعلاة..
فهي بذلك منطقة ثرية بالآيات و الشواهد و الآثار النبوية و المعالم التاريخية ، و هو ما يفرض علينا توجيه عناية خاصة بها ، والاهتمام بإعادة تأهيلها و توثيق جميع ما تضمه من آثار ومعالم تاريخية ، و أن لا نسمح بإنشاءات تفضي إلى طمسها ، و قد سبقنا إلى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فقد حافظوا على آثار الأمم السابقة التي أمرنا الله بالنظر إليها و لم يتعرضوا لها بسوء ، و اشتُهرت عنايتهم بتتبع الآثار النبوية و حفظها من خلال بناء المساجد على العديد من المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم مثال مسجد بيعة العقبة -وهو من أقدم الآثار في مكة المكرمة وعمره يتجاوز الـ 1200 عام- ومسجد الراية و مسجد الفتح و مسجد الكوع ومسجد الغمامة و مسجد الإجابة و غيرها كثير .. وللملك عبد العزيز رحمه الله إسهام في الحفاظ على بعض الآثار عندما سمح بإقامة درسة تحفيظ للقرآن في موضع بيت النبي صلى الله عليه و سلم و بناء مكتبة عامة في موضع مولده عليه السلام ..
و اقترح أن يتم تحديد جميع الآثار و المعالم التاريخية في الساحات الشرقية و دمجها في مخطط المنطقة الجاري إعداده بما يحفظها لأجيال الأمة وتاريخها المجيد ، ودون تأثير على الوظائف و الخدمات التي يجب توفيرها لأهالي مكة و زوارها من الحجاج و المعتمرين .. وهو أيضاً مطلوب تجاه جميع الآثار في جهات المسجد الحرام الأربعة و عموم مكة شرفها الله ، بل و عموم المملكة العربية السعودية و أملي أن يتحقق ذلك . والله ولي التوفيق
جريدة المدينة 1434/2/16هـ