تهوي إليهم

حين كنت أمشي في ساحات المسجد الحرام عقب الموسم اعترضني رجل كبير السن، قد انحنى ظهره، ورق عظمه، فقال لي: تعرف الإنجليزية؟ فقلت: نعم، فسألني أن أوصله إلى عنوان مكتوب عنده، فقمت بما يجب لمثله من ضيوف الرحمن، وبعد أن وصل سألني عن عملي، فأخبرته أني أستاذ مساعد في الإحصاء، فنظر إلى وقال: هل تعرف د. منير أحمد؟ قلت: وأي إحصائي لا يعرفه وهو العالم المشهور، والباحث الكبير في مجالات الإحصاء؟ تبسم وقال لي: أنا منير أحمد!


تذكرت هذه القصة التي حدثت قبل عشرين عاما لحظة تشرفت جامعة أم القرى منذ بضعة أيام باستضافة الدكتور أوجانج مدير جامعة ماليزيا للتقنية، هذا الرجل الذي سجل عشرين ملكية فكرية، ونشر أكثر من 250 ورقة علمية و27 كتابا! جاء الدكتور أوجانج حاجا فاستضافته الجامعة محاضرا.


تذكرت قول الله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، وقوله سبحانه: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق).
لقد جعل الله هذه المدينة المباركة مهوى الأفئدة، يفد إليها في من يفد العلماء والفقهاء والكبراء والخبراء والمخترعون، وكل هؤلاء ينبغي أن يكون لمكة نصيب من علمهم وفضلهم.


لقد رحب أوجانج بدعوة الجامعة للمحاضرة ترحيبا بالغا، وقال لي: إن كبار علماء الدنيا يأتون إلى هنا يطوفون ويسعون ويقرؤون القرآن ثم ينامون!! لماذا لا تستفيدون منهم؟


وصدق، فالقرآن الكريم حين تحدث عن الحج والحجيج قال: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)، فجعل (المنفعة) بكل أبعادها مقصدا من مقاصد الحج، بل قدمها في الذكر على الذكر.
وفي موضع آخر، يقول القرآن الكريم: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)، وقد قال مجاهد: هي التجارة في الموسم، فإذا كانت التجارة من منافع الحج المشروعة، فكيف بالعلم والتعليم؟


وتلك سنة الأولين، فقد كان الحج عندهم محفلا علميا يتلاقى فيه العلماء، وكان في المحدثين من يحج ليروي عن سفيان بن عيينة! وكان بعض العلماء يحج ومن أعظم البواعث له على الحج طلب العلم والاجتماع بالعلماء، وتأمل إن شئت رحلات الحج التي دونها عدد من العلماء.


إذن، كان الحج وما زال مجمعا للعلماء، ومع انفتاح
باب العمرة أصبحت مكة موطئا للعلماء طوال العام، ولذلك وجب على الجهات المعنية بمكة المكرمة أن تتخذ سبيلا، بل سبلا، للاستفادة من هذه العقول الضخمة.


ومما يزيد الأمر ضرورة أن هؤلاء العلماء المسلمين يتشرفون بخدمة مكة، ويفرحون بذلك، ولا يرجون عليه جزاء ولا شكورا، إنما يحتسبون به الأجر عند الله.


ومن هذا المنطلق دشنت الجامعة مشروع الاستفادة من العلماء الذين يؤدون الحج والعمرة، وكانت محاضرة د. أوجانج فاتحة هذا المشروع، ونرجو في المستقبل القريب أن يتجاوز الأمر إلقاء المحاضرات، إلى حل المشكلات، وتدشين المشاريع، وتكثيف حلقات البحث، وورش العمل، ما يجعل من مكة المكرمة (مصنعا علميا ثقافيا عالميا ) ليس له مثيل في الدنيا.
وحق لـ (أم القرى) أن تكون كذلك.

عكاظ 1434/1/3هـ