الابتكار .. النجاح .. كلام حول الحج بعد الزحمة !!

مضى الحج بفضل الله و قد منّ على ضيوفه بإتمام مناسكهم ، و بدأوا رحلة العودة إلى بلدانهم محملين بالأجر و القبول بإذنه تعالى ، وبقي على من قاموا على خدمتهم أن يبدأوا رحلتهم من التقييم لإيجابيات و سلبيات الموسم ، و العمل من أجل تعزيز الأولى و القضاء على الثانية..


لقد تعوّدنا أن تتصدر وسائل إعلامنا عناوين نجاحات مواسم الحج ، ما بين مفردات مثل النجاح الباهر و غير المسبوق و ليس له نظير و فاق المواسم السابقة و هكذا .. ، و لكن في هذا العام و لأول مرة أشاهد -أنا على الأقل- على أحد أهم وسائل إعلامنا من يرصد آراء الحجاج والسلبيات التي واجهوها أثناء أداء المناسك ، فقد بثت قناة الإخبارية تقريراً لمراسلها النابه مالك الروقي رصد فيه بعض السلبيات المتكررة في كل عام عدا سلبية جديدة وهي المتعلقة بـ (وعكة) قطار المشاعر ، و هي تبدو جديدة لارتباطها بالقطار أما هي في أصلها قديمة متجددة باعتبار أنها متعلقة بإدارة الحشود.


إن الحديث عن السلبيات الذي يتحسس منه بعض المسئولين يأتي في سياق التطلع للأفضل ، ولا يقلل من حجم الجهود الحكومية و الأهلية التي تبذلها المملكة في خدمة الحجاج ؛ بل إنني أزعم أن التذمر من كشف السلبيات و الإعلان عن النجاحات غير المسبوقة هو ما يؤدي إلى التراخي في معالجة السلبيات و تفاقمها و يهدر الجهود المبذولة.


إن تضخم أعداد الحجاج يفرض على القائمين على إدارة الحج عدم الاكتفاء بتضخيم البنى التحتية لأنها لن تستوعب لوحدها التزايد المطرد في الأعداد ، و إنما عليهم الذهاب إلى توجيه تركيز خاص -قد يفوق في بعض الأحيان التركيز على تضخيم البنى التحتية- على الإدارة بفكر إبداعي. فهناك عدة إشكالات و سلبيات متكررة تحتاج لمثل هذا الفكر. منها و على رأسها ما أسميناه الحجاج غير النظاميين ؛ ففي تصوري أن سبب تفاقم هذه المشكلة و اندفاع هؤلاء الحجاج للحج بهذه الطريقة هو ارتفاع تكاليف الحج التي تضاعفت بشكل كبير جداً على حجاج الداخل منذ إطلاق شعار (لاحج بلا تصريح) و التي فاقت تكاليف حجاج الخارج بكثير برغم انخفاض تكاليف سفر حجاج الداخل و عدم سكنهم في مكة و المدينة ، فهؤلاء الحجاج (غير النظاميين) في غالبهم هم من قوْم (الحج عرفة) ، و حتى مبيت ثلة منهم في منى لا يتجاوز طرفاً من الليل ، فلو تم تنظيم هذه الفئة من الحجاج بمبالغ زهيدة 200 إلى 300 ريال مثلاً ، وجدولة رحلاتهم ، و تخصيص مواقع لهم في عرفة و مزدلفة و منى ، ووسائل نقل يتوافق خط سيرها مع مذهبهم في أداء المناسك القائم على الأخذ بالرخص و التيسير ؛ فإن المتوقع أن تستوعب هذه الفكرة مئات الآلاف منهم ، و ستتزايد الأعداد المستفيدة من هذا التنظيم بناءً على ما يحققه من نجاحات ، و بالتالي يُصبح لدينا تحسن تدريجي في السيطرة على منظومة الخدمات في الحج بدلاً من تزايد فقدان السيطرة بتزايد الأعداد كل عام.


مشكلة التزاحم و التدافع على قطار المشاعر التي استجدت هذا العام هي بسبب غياب التنظيم و المعلومات و ضعف إدارة الحشود ، فقد تم بيع أعداد كبيرة من التذاكر وبالتالي أصبح معلوماً أن هناك أعدادا كبيرة ستستخدم القطار في رحلتها للحج ، و إمكانيات المحطات الثلاث في كل مشعر محدودة ولا تستوعب كل هذه الأعداد التي ستندفع إليها وفقا لبدايات توقيتات المناسك المعروفة .. وللأسف لم يكن هناك معلومات واضحة عن خطة سير القطار وبعضهم بعد إفاضته من عرفات عاد بهم القطار إليها ليفيضوا من جديد بسبب عدم توقف القطار في المحطة التي يرغبون النزول فيها في مزدلفة ، و ليس هناك جدولة للأعداد الكبيرة التي اشترت التذاكر ، و كما أظهرت مشاهد الفيديو ليس هناك إدارة لحركة الركاب خارج المحطات ، وبدا واضحاً تكدسهم وتدافعهم خارج حمى المحطات إلى الحد الذي دفعهم في النهاية لاقتحامها خوفاً على أنفسهم و هروباً من الموت..


مشكلة النظافة و تزايد المخلفات عاماً بعد عام تحتاج لبنى تحتية غير تقليدية لم يتم توفيرها للأسف حتى الآن ، مثل شبكة سيور داخل أنفاق تحت الأرض أو أنابيب معلقة لنقل المخلفات إلى خارج المناطق الأشد ازدحاماً ، و تحتاج أيضاً لتنظيمات تساعد في الحد من كمياتها ، منها على سبيل المثال أن تكون مياه الشبكة العامة صالحة للشرب و بالتالي يمكننا التخفيف من عبوات المياه البلاستيكية التي أصبحت تغطي شوارع المشاعر و تضخم حجم مخلفات المخيمات و تضر بالبيئة أيما إضرار.


و أما الإعلان عن نجاح الموسم في كل عام فلا يزال ينقصه المعايير ، و لهذه المعايير في صناعة الخدمات التي تنتمي إليها خدمات الحج ثلاثة أبعاد ؛ يتم من خلالها قياس مدى رضاء متلقي الخدمة (الحاج) وهي: الوقت و الجودة ، و السعر ؛ و بالتالي فعلينا أن نضع مجموعة من المعايير لما نريد أن نحققه في هذه الأبعاد الثلاثة ، لنتمكن من قياس ما حققناه منها و معرفة مدى نجاحنا في كل موسم ، و المقارنة بالمواسم السابقة وتحديد مدى تقدمنا أو تراجعنا في أي بعُد أو أي معيار من معايير النجاح التي وضعنها.

المدينة 1433/12/18هـ