قَدَرُ الْحَجِّ!

كثيراً ما نتفلَّت من مواجهة إخفاقاتنا الفردية والجماعية بإلحاقها بالقَدَر!

وما القَدَر إلا إرادة العبد الجازمة وقدرته حين تلتقي مع نواميس الكون وسننه؛ التي أودعها الله فيه، ومكننا من معرفتها، واكتشافها، وتوظيفها.

لو اعتُرض على أحدنا وهو يقوم بعمل ما، وعوتب بأن هذا هروب من القَدَر؛ لأجاب بعفوية:

أعوذ بالله!

ومن يفر من القَدَر؟!

لكن الخليفة العظيم عمر سبك لنا لفظاً متقناً بديعاً يؤكد أن من أخلص جنانه فصح لسانه، فحين اعترض عليه بعض الصحابة وهو يرجع بالناس من الشام خشية الطاعون، واعتبروه فراراً من القدر؛ أجاب: « نَعَمْ !».

وهذه مفاجأة تكسر الهيبة الوهمية عند من صنع السؤال وظنه إجهازاً وقضاءً على مبدأ الهروب والتوقِّي ومدافعة أسباب الشر بأسباب الخير.. ثم أردف -رضي الله عنه-: « نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ »؛ ليرسم بذلك فعل الإنسان وأنه ليس الاستسلام لما يظنه قدراً، بل مدافعة الشر بالخير، والعجز بالقوة، والجهل بالعلم، والفقر بالغنى، والمرض بالصحة، والمعصية بالطاعة، والتخلف بأسباب الرقي والتقدُّم.

والقَدَر حق، والإيمان به واجب، ولكن الشأن في حسن الفهم؛ لئلا يتحوّل القَدَر إلى جبرية لا مخلص منها، أو إلغاء لدور الإنسان ومسؤوليته في الخير والشر.

فإن معظم الباحثين الغربيين والقُرَّاء عن الإسلام من غير أهله يُعييهم فهم القَدَر على وجهه؛ فيرسمونهُ على أنه استسلام للأخطاء، وتهربٌ من الاعتراف بالمسؤولية عنها كليّاً أو جزئيّاً، وقد يظنون أن ما أصاب المسلمين من نكسات حضارية هو بسبب الإيمان بالقَدَر.

والإيمان بالقَدَر معنىً فاضلٌ شريفٌ، والتذكير به حسن لتسلية المصاب ومعالجة الحزن، وقد قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(التغابن: من الآية11).

قال بعض السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم..

وهذا لا يتنافى قط مع البحث عن أسباب المصيبة، والسعي الجاد لتلافي تكرارها، والشجاعة التامّة في تحمّل كل طرف لمسؤوليته أيّاً كان مقدارها وحجمها.

ومن ذلك الأحداث المحزنة؛ التي قلّ أن يخلو منها موسم من مواسم الحج في غيبة تراكم الخبرة، وشمولية التخطيط، ومركزية الإدارة التي تمنع الازدواجية وتحدد الجهة المسؤولة.

على الجهات الإدارية مسؤوليتها، وعلى الحملات مسؤوليتها، وعلى البلدان التي جاؤوا منها مسؤوليتها، وعلى الحاج نفسه مسؤوليته أيضاً.

والحزن على هؤلاء المسلمين يوجب علينا ألا ننشغل بتدافع المسؤولية عن تحملها بجدارة واقتدار.

إن من القَدَر أن يحتل اليهود فلسطين؛ ومنه أيضاً أن نجاهدهم.

ومن القَدَر أن تتفشّى الخرافة بين المسلمين؛ ومنه أن نقاومها بالعلم والمعرفة الصحيحة.

والحج فرصة وليس أزمة، وهو مصدر وحدة، وقوة، وإيمان، وثروة.

إن الحج مدرسة عريقة للعناية بحقوق الإنسان فردًا أو جماعة: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ)(المائدة: من الآية97).

وقد تضمّنت خطبة الوداع النبوية التأكيد على أصول الحقوق الإنسانية من الدماء والأموال والأعراض وغيرها؛ فهل نقبل أن تتحول هذه الشعيرة الربانية إلى فرصة لإهدار هذه الحقوق بسبب الجهل، أو فقدان الوعي أو سوء التنظيم أو الانهماك في مخاوف متوقعة بدلاً من مخاوف واقعة أو ضيق النظرة الفقهية التي قد تحتاط للواجب أو السنة وتهدر الركن؟

لقد دافعنا فوضى السكن بمنى ببناء الخيام؛ فأصبحت منى أكبر مدينة خيام في العالم.

فهل ستظل هذه الخيام القديمة بهيئتها تؤجر على الناس دون أي خدمات؟

هل يجوز تأجير المشاعر؟ وهل يُقبل أن تصبح قيمة الخيمة بمئات الألوف؟

ولم لا يتوسع في البناء والخدمات والبنى التحتية بمنى وعرفة ومزدلفة؟

هل سيقبل أحدنا شقة فاخرة كهدية إذا كانت تخلو من دورات المياه؟!

تشييد الأبنية والجسور والقطارات والمطارات مهم، ومهم جداً، وإتقان فن إدارة الحشود أكثر أهمية حتى تؤتي هذه المنشآت أكلها وتحقق غايتها.

حتى أدق التفاصيل؛ كنظافة الشارع، وحاويات القمامة، وتوفر الحلاقين و.. و.. يجب أن تكون مرسومة بإتقان حتى تبدو الصورة جميلة ومعبرة.

أخلاق المتعاملين مع الحجاج يجب أن تكون كريمة وبعيدة عن العسف والازدراء والقسوة، فهم وفد الله متلبّسون بنسك، وقد دفعوا أموالاً طائلة مقابل وصولهم، فيجب أن يحظوا بتقدير واحترام، ويعاملوا بمحبة، ويُوجَّهوا بصبر.

رأيت حطماً للمفترشين على أرصفة الجسور بمنى؛ وهم عائلات، ونساء، وصبيان؛ بقاؤهم مؤقت، وهم في منطقة لا تعوق سير الغادين والرائحين، والأولى أن يتجه الجهد لتنظيم وجودهم، وتوفير البدائل، وتقديم الخدمات.. بدلاً من المطاردات التي تبوء بالفشل، إذ لا يزالون يغافلون الأمن ويعودون؛ لأنه لا بديل عندهم.

من لم يكن له سكن بمنى يليق به -وبدون مقابل أو بمقابل معقول- فليس عليه مبيت، ويمكنه أن يبيت حيث شاء بعرفة أو بالعزيزية أو بمكة.

والافتراش خلاف السنة، وهو ضرر صحي ولا يخلو من مخاطر، على أن النفوس لا تترك شيئاً إلا لشيء، واستخدام القوة يورث لدى الناس الغصة ويغرس الكراهية.

وقد رأيت بعض الموظفين يضايقون الحجاج حين يقفون للدعاء بعد رمي الجمرات، ويدفعونهم دون سبب وهم منخرطون في خشوع وتضرع، فيفسدون روحانيتهم بينما هم واقفون على السنة وبعيدون عن الطريق!

والحُجَّة أن هذه أوامر، والأوامر لها مقاصد إذا لم يفقهها الميداني كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

الرؤية الاستراتيجية الشاملة تتطلب إسناد الأمر لكفاءات مدرَّبة، ولو من أي مكان في العالم، ومنع التدخل والتداخل والازدواجية، ومشاركة المدير والضابط والميداني والفقيه -على حدٍّ سواء- ضمن إطار مرسوم.

المصدر : موقع الاسلام اليوم 1433/12/18هـ .