مساكن مكة بلا حجاج !

أكرم الله ــ سبحانه وتعالى ــ سكان مكة المكرمة بأمور كثيرة، فهم أهل جوار بيت الله، ولهم مكارم منها «الديني»، فالصلاة في الحرم المكي بمئة ألف صلاة، ومنها «الدنيوي»؛ لأن لهم الاستفادة مفتوحة إلى أن تقوم الساعة بالحج والعمرة، وما يترتب عليهما من منافع متعددة. ومع الزمن وعبر الأجيال تربى «المكي» محبا للحج والحجاج، وتربى على خدمة الحجيج والتعامل معهم منذ طفولته. فتجد الشاب المكي يتحدث عدة لغات اكتسبها بالاحتكاك والتعامل مع المسلمين من جنسيات مختلفه. كما تجده خبيرا بمتطلبات الحجاج ورغباتهم وأمزجتهم. ومع الوقت نقل «المكي» خبرته لبقية أبناء مناطق المملكة ممن يعملون معه في موسم الحج الذي توسع مع الزمن، وبات يحتاج لمجهودات الكثير من أبناء المملكة كافة.


ومنذ القدم، كان سكان مكة المكرمة يعمدون إلى ترك مساكنهم الواسعة والانتقال إلى مساكن أصغر أثناء موسم الحج ليقوم رب الأسرة بتأجير المنزل على حجاج بيت الله؛ بهدف خدمتهم واكتساب الأجر والأجرة. وقد كان التعامل مباشرا بين أصحاب المنازل والحجاج. ومع الوقت تطورت مهنة الطوافة وتم إسناد مهام «الإسكان» للمطوفين الذين ورثوا المهنة أبا عن جد، وأصبحوا يقومون بمهام تأجير المنازل والمساكن على الحجاج. ثم تغير النظام وأسندت مهمة «الإسكان» لبعثات الحج الأجنبية لتقوم بتأجير المساكن عبر وسطاء ينشطون في تسويق آلاف العمائر والوحدات السكنية لإسكان ما يقارب مليوني حاج من الخارج والداخل في موسم الحج. وللأسف، فإن بعض الوسطاء وجلهم من الجنسيات الآسيوية والعربية المقيمة أصبحوا يشكلون «لوبيات» ضاغطة في عملية إسكان المعتمرين والحجاج على ملاك المساكن في مكة المكرمة.


وللأسف، فإن ظاهرة «الوسطاء» نتجت حينما تم إسناد مهمة الإسكان إلى بعثات الحج وسحبها من المطوفين قبل ما يقارب 18 عاما، بعد أن كان يتم توفير الإسكان عن طريق المطوف، صاحب الخبرة، وليس عن طريق البعثات. وهؤلاء الوسطاء من العمالة الأجنبية يتفننون وينشطون قبيل كل موسم حج، إذ يقومون باستئجار أو التوسط بين مالك السكن والبعثات، نظير الحصول على فروق في سعر التأجير، أو عمولات تصل في حالات كثيرة إلى أرقام فلكية تتجاوز خانة الستة أصفار تذهب وتتسرب إلى الخارج، ولا يتم الاستفادة منها في المملكة.


ولا يمكن نظريا إيقاف هذه المسألة إلا حين تجري إعادة تأجير إسكان الحجاج والمعتمرين لمؤسسات طوافة، ومؤسسات قانونية تعمل تحت هيئة يتم استحداثها للتأجير، وتوضع لهم لوائح وتنظيمات تضبط عملية التأجير، فمسؤولو البعثات لا يعلمون عن أماكن المساكن، وبالتالي مضطرون للجوء للوسطاء الباحثين عن العمولات في عملية التسكين، والذين يستغلون كل شيء وأي شيء ومستعدون دائما لامتصاص خيرات البلاد من أبنائها، وحرمان أهل مكة من حق تاريخي اكتسبوه.


وفي موسم حج هذا العام، وعلى الرغم من منح أكثر من 8000 تصريح إسكان حجاج في مكة، إلا أن هناك كسادا في التأجير لم يسبق له مثيل، والسبب ــ في رأيي ــ أن هناك عشوائية في السماح للمستثمرين ببناء مساكن خاصة بالحجاج، في الوقت الذي يعاني الأهالي في مكة من البحث عن مساكن طوال العام؛ بسبب اتجاه المستثمرين نحو بناء مساكن للحجاج فقط، وكذلك يعود السبب للوسطاء الذين يوجهون البعثات نحو تأجير مساكن من يدفع لهم عمولة أعلى، حتى لو كانت مساكنهم أقل جودة من الذين يدفعون أقل للوسطاء فيجدون في النهاية مساكنهم «خاوية» على عروشها. وبلا شك، لا بد من إعادة النظر في تنظيم «إسكان» المعتمرين والحجاج في مكة، حتى لا تستغل من ضعاف النفوس، وحتى تتحقق الاستفادة لأبناء البلد، وحتى لا تبقى مساكن مكة بلا حجاج في المواسم المقبلة.

عكاظ 1433/12/5هـ