الجهود الأهلية في خدمة الحج .. الطوافة نموذجاً
إن منتهى كل ما يتم بذله من جهود في خدمة الحجاج هو تمكينهم من أداء مناسكهم براحة واطمئنان. و جهود المملكة في خدمة ضيوف الرحمن تنقسم إلى شقين أساسيين : الأول الشق الحكومي ، و الثاني الشق الأهلي. و أما الشق الحكومي فيتمثل فيما توفره من بنى تحتية و فوقية و رعاية صحية و خدمات بلدية و أمنية ، و أما الشق الأهلي فيتمثل في جانب خدمات الطوافة و الرفادة و السقاية و الاستقبال و زيارة المدينة المنورة و الإسكان و الإعاشة و النقل.
وفي مقال اليوم سوف أركز على ما يقدمه المطوفون من أجل تسليط الضوء على ما يبذلونه من جهود في ظل ظروف عمل صعبة ، تحكمها محددات زمانية و مكانية ، و تتقاطع فيها شبكة واسعة من العلاقات ، و تؤثر عليها أعمال جهات أخرى عديدة ، و يتحمل فيها المطوف جل التبعات ؛ لأنه في مواجهة الحاج و المتلقي لردود فعله على ما قد يصادفه من مواقف صعبة.
ولعلي في البداية استعين بوصف قدمه الأمير شكيب أرسلان في كتابه الارتسامات اللطاف ، حول مشاهداته في رحلته الحجازية التي قام بها في عام 1348هـ (حوالي 1928م) ، لأداء فريضة الحج ، وهو يصف مهمات المُطَوِّف وجهوده في خدمة الحاج، إذ يقول:
«إن المُطَوِّف هو الذي يكفل جميع حوائج الحاج و أغراضه ، منذ يطأ رصيف جدة إلى أن يصعد سلم الباخرة قافلاً . فيحمله إلى مكة ، ثم إلى عرفة ، ثم إلى مزدلفة ، ثم إلى منى ، ثم يعود به إلى مكة ، إذا أراد الزيارة هيأ له جميع أسباب السفر إلى المدينة ، و هناك سلمه إلى المزوّر ، الذي هو صاحب المصلحة في المدينة ، لا يتجاوز عليه غيره فيها. و إذا سأل الحاج عن أي شيء ، من الفلك إلى الذرة فلابد أن يجيبه المُطَوِّف عليه ، و إذا احتاج إلى أي شيء ، من الجمل إلى البرغوث فلابد أن يأتيه به ، و إذا وقعت له واقعة من إنسان تقتضي مراجعة الحكومة ، فعلى المُطَوِّف أن يرافق الحاج إلى صاحب الشرطة و ينهي معاملته ... ، و مما يدهش العقل أن المُطَوِّفين و المُزَوِّرين يعرفون جميع لغات العالم» و يضيف: «فإذا مرض الحاج فالمُطَوِّف هو الذي يعلله ، و يأتي له بالطبيب و الدواء ، ويسهر عليه ، و إذا مات فهو الذي يخبر الحكومة ويأتي بأناس من قبلها ، و يضب في حضورهم حوائجه ، و لو سمي المُطَوِّف كافلاً للحاج لما كان في هذه التسمية أدنى مبالغة». انتهى
وهذا الوصف يتطابق مع ما يقوم به المطوف ومؤسسات الطوافة حالياً ؛ بل وأكثر إذ أضيفت مهام أخرى لمؤسسات الطوافة ليست من ضمن اختصاصاتها.
ومؤسسات الطوافة تُعد هي المرجع المرشد ليس للحجاج فقط و إنما لجميع الجهات التي تخدمه ، و لذلك نجد أن الجهات التي تعي أهمية دور المطوف في منظومة خدمات الحج تسعى للتواصل والتنسيق الوثيق مع مؤسسات الطوافة ، وهو ما ترتب عليه اتساع شبكة علاقات عمل المؤسسات لتشمل العمل والتنسيق مع: وزارة الحج ، و ممثلي حجاج 165 دولة وهم البعثات والوكالات و يُعدون بالمئات ، و المؤسسات الشقيقة في مكة المكرمة (الزمازمة) و المدينة المنورة (الأدلاء) و جدة (الوكلاء) و قيادات المرور في مكة المكرمة و منى و عرفات ومزلفة ، و الدفاع المدني ، و القيادات الأمنية ، و مرافق وزارة الصحة ، و بلديات أمانة العاصمة ، و شركة الكهرباء ، و شركة الاتصالات ، و جمعية الكشافة و غيرهم.
و التنسيق والعمل مع هذه الجهات يكتنفه العديد من التفاصيل و العمل المضني المتواصل ليله بنهاره ، الذي يؤديه عشرات الآلاف من العاملين من المطوفين و غيرهم.
ومن الطرائف أن عمل المطوفين يجمع ما بين الصعوبة و الجمال ، فالصعوبة تأتي من كونهم يتحملون تبعات إخفاقات جميع الجهات لأنهم هم المواجهون للحجاج ، فإن تكدست خيام منى بالحجاج أو اختنق المرور فتسبب في بقاء الحجاج في حافلاتهم لمدد تتجاوز 24 ساعة أو تأخر وصول طعامهم فإن الملوم هو المطوف و ليس المرور و لا الجهة التي نفذت مشروع الخيام وخصصت مساحاتها على الحجاج ، و كثيراً ما يحدث في الأوقات الصعبة أن يبتعد –ولا أريد أن أقول يهرب- ممثلو الحجاج من البعثات و الوكالات عن الأنظار ليتركوا المطوف يتحمل ويواجه و يحاول امتصاص موجات غضب الحجاج وتذمرهم.
والجمال في عمل المطوفين أنهم يتحملون كل هذه الصعوبات بنفوس راضية و يعودون في كل عام -بل يتشوقون- لخدمة ضيوف الرحمن و خوض الصعوبات من جديد !! فلله درهم !!
بقي أن أفاجئ القارئ الكريم بقولي أن ما تحصل عليه مؤسسات الطوافة مقابل كل هذه الخدمات مضافاً إليها خدمة الحجاج في المشاعر المقدسة بكل تجهيزاتها من مخيمات و فرش ومياه شرب وحراسات ؛ هو 175 ريالا و تُسمى العوائد ، و 48 ريالا وهي جزء من 300 ريال هي أجرة الخيام في عرفة و منى ، أي أن مجموع ما تحصل عليه المؤسسة من كل حاج هو 223ريالا فقط لا غير ؛ قارنها عزيزي القارئ بما حُدد كأقل سعر لحجاج الداخل هذا العام وهو 1900 ريال وبخدمات أقل بكثير مما تقدمه مؤسسات الطوافة.. مفاجأة .. أليس كذلك ؟!
المدينة 1433/12/4هـ