أهل مكة هم من تهوي إليهم الأفئدة

أعلن منتصف شهر رمضان المبارك الماضي عن صدور الموافقة بنزع ألفي عقار لمصلحة مشروع الساحات الشمالية للحرم المكي الشريف لبناء محطات القطارات والمواقف العامة وكذلك لمصلحة تطوير وقف الحرم الجديد.

و الملاحظ أن الساحات الشمالية لم تعد شمالية ، فقد شرّقت و غرّبت و جنوبت –إن صحت هذه الأخيرة- فبعد أن أتت على كل الأحياء الشامية امتدت إلى البيبان و الحجون ، والآن في طريقها إلى شعب عامر وربع أطلع و الفلق و جبل عبادي و جبل المدافع و جرول و جبل الكعبة و قبة محمود وميدان التيسير.

و الناظر للمناطق التي شملتها الهدميات يحتار في فهم الخطة الجاري تنفيذها ، و يشعر بأنه لا توجد خطة مبنية على رؤية بعيدة المدى للمنطقة المحيطة بالمسجد الحرام ، وكأنما هناك رغبة في استثمار الوفرة المالية لنزع ملكيات أكبر مساحة ممكنة ، مع التركيز على الأحياء والمباني القديمة. وترتب على تتابع الهدم على مدى الست سنوات الماضية أن أزيلت أحياء مكة القديمة بالكامل ، و أزيل معها العديد من المواضع التاريخية التي كان من آخرها مسجد الراية ، الذي بُني حيث غزّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم رايته يوم الفتح ، و هو بالمناسبة سبب تسمية الحي بـ (الغزّة) ، الذي ذهب وبقية الأحياء بكل ما تحمله من عبق التاريخ ، و بقية ذكريات و علاقات إنسانية.
فالحيرة تأتي من التوسع في الهدم شمال و شرق المسجد الحرام بمسافة تمتد لمئات الأمتار و إلى أعالي الجبال ، في الوقت التي يُسمح فيه للمستثمرين العقاريين بالبناء على بعد أمتار من غربه و جنوبه. وهو ما يخل بتوازن كثافة الإسكان و الحركة حول المسجد الحرام.

الحيرة أيضاً من أن يتم هدم البيوت التي على قمم الجبال ، حيث لا يُتصور إقامة محطات نقل أو مواقف عامة مكانها.

و الحيرة كذلك من هدم البيوت و نزع الملكيات لمصلحة إقامة وقف جديد ، إذ كيف يتم قبول تحويل ريع مبانٍ قائمة من جيوب ملاكها و أسرهم و هم يُعدون بالآلاف إلى وقف استثماري حتى و إن كان ريعه للمسجد الحرام ؟!

إن نزع أملاك الناس محكوم في الشريعة و النظام بقدر الحاجة الحقيقية ، و ليس متروكاً لأهواء المستثمرين و المتنفذين ، وما زاد عن الحاجة الحقيقية فهو غصب و الغصب محرّم في كل مكان وفي مكة المكرمة أشد حرمة ، ومنعه آكد ، فهي بلد الله لحرام الذي لا يُعضد شوكه ، فما بالنا ببيوته ؟ و لا يُنفّر طيره ، فما بالنا بأهله وسكانه ؟ و هو البلد الذي توعد الله من يُرد الإلحاد فيه بظلم بالعذاب الأليم.
إن الواجب أن يُلتزم في نزع أملاك الناس أن تكون بقدر الحاجة الفعلية فقط ، و أن لا يُتوسع في ذلك بذريعة الحاجات المستقبلية البعيدة ، وأن يُراعى الحفاظ على الأماكن التاريخية و الآثار الإسلامية ، فمكة شرّفها الله شهدت أحداث هامة و بها مواضع تاريخية عديدة.

ومن الواجب أيضاً أن يتم تطوير ما تبقى من أحيائها القديمة بما فيها التي على قمم الجبال ، بتمهيد طرق الوصول إليها ، و إيصال جميع الخدمات التي تحتاجها لاستبقاء البقية من أهل مكة كسكان دائمين حول الحرم.

ومن الواجب التنبه إلى أن ما يجري من سماح بزيادة ارتفاعات المباني المحيطة بالمسجد الحرام ، و استمرار نزع ملكيات أدى إلى رفع كلفة السكن الدائم حول الحرم ، و هو ما يعني تفريغ من تبقى من أهل مكة من حوله.

و علينا التنبه أيضاً إلى أن أهل مكة هم المعنيون في الآية الكريمة (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) ، إذ لم يقل سبحانه و تعالى (تهوي إليه) أي بيته المحرّم ، وإنما قال (تهوي إليهم) ، و إبعادهم من جوار الحرم يعني تغييب من تهوي إليهم الأفئدة ، و هم خير من يُحسن خدمة و إكرام هذه الأفئدة ، و بغيابهم يغيب ما تبقى من مظاهر الحياة الاجتماعية الطبيعية في قلب مدينة مكة المكرمة ، و تحويلها إلى أقرب ما تكون لمحطة عبور (ترانزيت) ، و مكة أعظم و أقدس من أن تُحوّل إلى محطة عبور.

ولذلك لابد من العمل من أجل تمكينهم من البقاء كمكون أساسي في النسيج الانساني و الاجتماعي المحيط بالمسجد الحرام بدلاً من تنفيرهم من حوله –من حيث لا نشعر- ، هذا إن كنا جادين في الارتقاء بخدمة و إكرام ضيوف الرحمن. و الله من وراء القصد.