كيف غابت التنمية البشرية في مكة؟
في معالجة الأحياء المهملة والنائية اتبعت الجهات الحكومية نموذجين لتنفيذ مخططاتها الاستثمارية، النموذج الأول: انتزاع أملاك السكان في الأحياء النائية والمهملة من الخدمات على أنها أحياء عشوائية ومضرة أمنياً، مع أنها تقع في وسط المدن، والبعض الآخر أقامتها الدولة لإيواء بعض الجاليات التي استضافتها الدولة من جنسيات أفريقيا وبورما وأفغانستان ودول أخرى، كما هي الحال في مكة المكرمة ومدن أخرى، أما النموذج الثاني فهو المساحات المحيطة بالمسجد الحرام، أزيلت تحت مسمى التوسعة والصالح العام، إنما هذه التوسعة امتدت للأحياء القريبة من المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومن الظلم أن نطلق عليها أحياء عشوائية، ودخلت شركات العقار والتطوير العمراني تحت مظلة التوسعة، فيما أزيلت منازل وأحياء حول المسجد في مكة المكرمة والمدينة المنورة لمصلحة التوسعة، تحركت في الجانب الآخر شركات العقار والتطوير العمراني في إخلاء المنطقة من سكانها بهدف بناء أبراج وفنادق ومنشآت تجارية، فاستفادت من عدم وجود صكوك لهذه المنازل لكونها تعود إلى عهود سابقة، ومع أصوات طالبت بالإنصاف والعدالة في التعويضات لم يلتفت لها أحد.
بالفعل من يشاهد الآن المناطق المحيطة حول المسجد الحرام والمسجد النبوي الكريم يرى التوسعة المزدوجة للحرم والمناطق القريبة، وكأن من الضروري أن يصاحب توسعة الحرمين هدم المباني والأحياء المجاورة، وبناء الأبراج، مع أن البنية التحتية للمنطقة المركزية حتى الآن لم تكتمل من وسائل نقل ومواصلات، كما أسهمت هذه التوسعة العشوائية لبناء الفنادق والأبراج في ارتفاع كلفة المعيشة حول منطقة الحرم بشكل لافت وغير مسبوق، وتحقيق مكاسب لهذه الشركات غير مبررة، سواء مطاعم أو محال تجارية وحتى مواصلات، فضلاً عن أسعار الغرف الفندقية، وأضاعت هذه المباني هوية العمران والمباني الإسلامية، بما تحتويه من مكونات تدخل ضمن النسيج الاجتماعي، مع الأسف الشديد نظرة الجهات الحكومية معالجة الأحياء الضيقة والصغيرة دائماً كانت فيها نظرة سلبية وليست إيجابية، وجاءت لمصلحة التجار والشركات وليس للصالح العام، نعترف أن هدم مبانٍ وأحياء لمصلحة توسعة الحرم أمر مشروع ولا خلاف عليه، أما أن تسهم جهات حكومية في إجبار الناس على ترك منازلهم وبيوتهم لمصلحة الشركات وبناء فنادق ومجمعات سكنية، من دون أي تخطيط أو دراسة فهذا أمر فيه خلاف.
قبل 40 عاماً حينما بدأت توسعات الحرمين لم يصاحبها في المقابل توفير مساحات أراضٍ أو مخططات، وحينها حدثت ربكة في سوق العقار والمخططات، مع شح الأراضي في مكة وغيرها من المدن، واستمرت الحال لأطماع الشركات، وتوسعت المباني حول الحرمين بشكل مزعج، في ظل عدم وجود أي تخطيط مدني أو اجتماعي سوى الإسهام في ارتفاع كلفة الحج والعمرة، والمنافسة من الشركات لبيع وشراء الأراضي وتداول الشقق السكنية... فأحدثت كثافة سكانية عالية في منطقة محددة من دون تنظيم، وعدم توفر الخدمات ووسائل السلامة، ولا تزال منطقة الحرم تسبب عائقاً لتقديم الخدمات العامة للحجاج والمعتمرين والزوار، فماذا أضافت هذه التوسعات كقيمة اقتصادية لمكة المكرمة، أو المدينة المنورة، إن كانت فرص عمل أو أنشطة تجارية، بل إنها أذابت الهوية المكاوية والحجازية وقضت على معالم وآثار تاريخية تدخل ضمن مكونات الحرمين من الناحية الاجتماعية، يحرص الزوار على مشاهدتها.
تركزت اهتمامات الدولة في مكة المكرمة والمدينة المنورة في توسعة الحرمين الشريفين وما يحيطهما، أما الاهتمام بالمدينتين المقدستين من الناحية التنموية فقد غابت تماماً، حسناً دعوني أسأل الهيئة العليا لتطوير منطقة مكة المكرمة، وهي الجهة المعنية: ما المشاريع التنموية الجديدة التي افتتحت خلال العقدين الماضيين؟ أود أن أسأل عن آخر مستشفى ولادة متى افتتح، أو مستشفى نسائي، بل حتى مستشفى؟... أود أن أسأل: كم منتزهاً اجتماعياً افتتحته الأمانة، كم عدد المدارس الحكومية الجديدة، عدد منح الأراضي التي وزعت على المواطنين، مراكز صحية جديدة؟ هل يمكن معرفة نسبة البطالة وعدد فرص العمل التي خلقتها هذه الأبراج.
مع الأسف الشديد الاتجاه الحكومي للتنمية في مكة المكرمة لم يكن مخصصاً للتنمية البشرية، بل كان موجهاً للتنمية العقارية ولمصلحة شركات الاستثمار، واستقطبت منطقة حول الحرم رؤوس أموال من مدن سعودية، لبناء فنادق، أما كان يمكن تخطيط مكةالمكرمة والمدينة المنورة بشمولية بما يحقق التنمية البشرية والعقارية، ويحسن من مستوى دخل الفرد والعيش الرغيد لأهالي المدينتين، بالله عليكم هل يمكن اعتبار مواقف الخط السريع أماكن للتنزه والفسحة لأهالي مكة، والغرفة التجارية تترنح من مكان إلى مكان غير قادرة على بناء مقر لها.
استغرب كيف أن الهيئة العليا بما تضمه من خبرات إدارية وهندسية لم تستطع وضع تصاميم متكاملة عن مكة المكرمة تشمل كل مكونات التنمية، هل يعقل لا يوجد متحف وطني في مكة المكرمة يتحدث عن تاريخ الكعبة ومكة المكرمة وإنجازاتها، ورجالها والشخصيات، وكذلك الأماكن التي تحتويها، الحجاج والزوار إلى جانب روحانية المكان، فهم في حاجة إلى معرفة تاريخ هذه الأماكن وكيف ازدهرت وتطورت منذ العصور القديمة وحتى الآن... اختصار تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة في مساحة محددة فقط ومن دون تخطيط وعلى عجل يؤكد أن الغاية فقط تشجيع رؤوس الأموال لضخ سيولة مبالغ فيها في بناء الفنادق والأبراج.
من المهم أن تتوقف شركات العقارات والمقاولات عن هوس البناء حول الحرمين الشريفين وتلتفت الجهات الحكومية إلى أطراف التنمية البشرية وتحسين مستوى دخل الفرد ومكافحة البطالة ومعالجة الفقر بين سكان مكةالمكرمة، وتحاول أن تخفف من ارتفاع كلفة المعيشة حول الحرم بتوفير البُنى التحتية ووقف البناء حول محيطها.
الحياة 1433/5/17هـ